اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتها على التبرعات التي تجمعها من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. عملية جمع التبرعات أو “Fund raising” باللغة الإنكليزية ليست عملية سلمية أو بسيطة، وإنما قد تتسم بالإكراه والقسر في بعض الأحيان، وبالغش والخداع (فيما يتعلق بالأهداف في معظم الأحيان، لذلك فكلمة “جباية” قد تكون أقرب للدقة وأكثر تفسيراً).
كما أن الأدبيات الصهيونية ترى أن عملية الجباية تقوِّي الروابط العاطفية مع الكيان المؤقت واليهود الأميركيين. ومن هنا شعار النداء اليهودي الموحد الأكثر شهرة “نحن واحد” يحث اليهود على تأكيد تضامنهم بواسطة العطاء. فالتبرعات لا يُنظر لها باعتبارها مجرد إحسان وبوصفها “نوعاً من المشاركة في دولة إسرائيل، خصوصاً من قبَل اليهود العلمانيين والمندمجين التي تمثل حملة النداء اليهودي الصلة الوحيدة بينهم وبين روحانية إسرائيل ومركزيتها” على حد قول إيرفينغ بيرنشتاين نائب الرئيس التنفيذي للنداء اليهودي الموحَّد.
هذا الخطاب الصهيوني المخادع والمُراوغ يخبئ داخله الكثير، وفك شيفرته؛ إن اليهودي العلماني المندمج هو اليهودي الذي يعيش في العالم الغربي، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، يعيش سعيداً هناك، ولا يريد الهجرة الى الكيان المؤقت، ولكنه يتمتع براتب مرتفع، ويجب الاستفادة من هذا الوضع. بناءً عليه، يطرح الصهاينة شعار “نحن واحد”. ولكن بحذر شديد وبتحفظات كثيرة يطرح الشعار، مما يجعله شعراً رناناُ دون محتوى. فالمطلوب من عضو الشعب اليهودي الواحد أن يُبقي الصلة “النفسية” مع الكيان المؤقت دون الهجرة إليها. وبهذه الطريقة، يستطيع اليهودي المندمج في الغرب البقاء في وطنه الحقيقي، والانتماء إليه، وفي الوقت نفسه يُصبح صهيونياً، وبذلك يمكن جمع التبرعات منه.
المفارقة أن الكثير ممن يدفعون التبرعات لا يفهمون المضمون السياسي لتبرعاتهم وإنما يدفعون الأموال باعتبار أنها عمل خيري، أو مساهمة في مشروع ثقافي وليس مساهمة في عملية استيطانية احتلالية. يلعب الخطاب الصهيوني المراوغ دوراً أساسياً في ذلك، فما يهم الصهاينة هو تبرعات يهود العالم لا انتماؤهم ولا إدراكهم السياسي. وقد ذكر زعيم حزب العمال البريطاني ريتشارد كروسمان أن وايزمان لم يكن لليهود المندمجين سوى الاحتقار، ولكن كان لديه استعداد دائم لجمع أموالهم من أجل المشروع الصهيوني.
كما يدفع الكثيرون التبرعات خشية التشهير بهم، أي تمارس الحركة الصهيونية الابتزاز. والبعض يدفع بسبب الإحساس بالذنب لأنهم لا يهاجرون إلى الوطن القومي، ويطلق عليهم “يهود النفقة”.
ولقد أصبحت التبرعات القناة الوحيدة التي يعبّر معظم اليهود بها عن علاقاتهم بالكيان المؤقت، لذلك طرح تسميتهم أي صهاينة الخارج باسم “متبرعو صهيون”.
وفي مطلع القرن الحادي والعشرين واجهت الجباية مشكلة نضوب المصادر المالية، ومن أسباب ما يُسمى “موت الشعب اليهودي” أي تناقص أعداد أعضاء الجماعات اليهودية نتيجة انخفاض التكاثر الطبيعي وتزايد معدلات الاندماج.
وارتفاع معدلات الاندماج يساهم في انصراف الجماعات اليهودية عن دفع التبرعات أو يتم دفعها لجمعيات غير يهودية، بسبب انعداد الاهتمام بالمشروع الصهيوني.
ولا شك أن حال الاقتصاد العالمي، ومشاكل التضخم، وأزمة كورونا مؤخراً ساهمت في انخفاض التبرعات. كما لوحظ أن 1% من كبار المتبرعين يدفعون 25% من كل التبرعات، وأن 10% من كبار المتبرعين يدفعون 80%، أي أن صغار المساهمين من الجماهير اليهودية لم يعودوا يتبرعون للكيان المؤقت تقريباً. كما أن المتبرعين هم من فئة كبار السن ومن الأجيال القديمة، ذو خلفية أوروبية في أغلبهم، أو من أبناء المهاجرين. وبما أنهم مسنون، فإن رحيلهم سيؤدي الى تسارع نضوب المصادر المالية لبعض المنظمات والجمعيات الصهيونية واليهودية.
وتواجه صناديق الجباية مشكلة في إيجاد متطوعين للقيام بحملات التبرعات، أزمة منذ تسعينيات القرن الماضي، أي منذ فترة غزو لبنان عام 1982، وفشل تكتل ليكود، وبروز المقاومة التي انتصرت عام 2000.
وهناك العديد من المنظمات الصهيونية لجباية التبرعات، منها: الصندوق القومي اليهودي، صندوق تأسيس فلسطين، النداء الإسرائيلي الموحَّد، النداء اليهودي الموحَّد، منظمة سندات دولة إسرائيل، الصندوق الإسرائيلي الجديد
الجدير بالذكر أن تبرعات يهود العالم في الماضي كانت تغطي نسبة مئوية لا بأس بها من نفقات الكيان المؤقت.
الكاتب: نسيب شمس