منذ تأسيسها، ادعت هيئة الإذاعة البريطانية المعروفة باسم BBC، وهي أقدم مؤسسة إعلامية في العالم، عقيدة تحريرية ظلت راسخة على مدى عقود، وهي مظاهر أخذ مسافة واحدة في التناول الخبري والبرامجي على وجه العموم، ادعت أنه حيادًا، مع العلم أن نظريات التأثير الإعلامي الغربية تؤكّد أنّ ثمة رسائل لا بدّ أن تتغلغل في بنية الحياد.
المعارضة الإيرانية تسترجع أيام الشاه في معاداة BBC
تاريخياً، كانت بريطانيا موضوع تآمر في السياسة الإيرانية، بالنظر إلى التاريخ الطويل والعنيف للتدخل البريطاني الفعلي في إيران. خلال انقلاب 1953، أمرت الحكومة البريطانية هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ببث رسالة مشفرة إلى الشاه محمد رضا بهلوي خلال الحرب العالمية الثانية الذي أظهر تعاونًا مع القوات الألمانية، الأمر الذي دفع القوات البريطانية والسوفييتية لخلعه عن العرش بعد احتلال كامل الأراضي الإيرانية. وبينما كانت الثورة الإسلامية عام 1979 تتكشف، حاولت حكومة الشاه المنتهية ولايتها تصوير الإمام الخميني على أنه عميل بريطاني هندي. أدى ذلك لاحقًا إلى ولادة الفكرة الشائعة بين مؤيدي الشاه الإيرانيين بأن بريطانيا رتبت للثورة لمعاقبة إيران لأنها أصبحت قوية. تسترجع المعارضة الإيرانية اليوم هذه الخلفية لتشجيع حملات على وسائل التواصل ضد محطة BBC فارسي، تحت عنوان “آية الله BBC”. مع العلم أن BBC فارسي تمارس التضليل الإعلامي والتشويه للنظام الإيراني وتلتقي معهم في العداء. فما هو هذا الخلاف؟
خلاف علني بين المنافذ الإعلامية المعارضة
في تسجيل مسرّب لمراسلة BBC الفارسية رعنا رحيم بور، أشارت لوالدتها إلى أن منصة إيران انترناشونال هي جزء من مشروع سعودي لاختطاف المعارضة الإيرانية وإشعال حرب أهلية. فردّت إيران انترناشونال وهي قناة سعودية تبثّ بالفارسية، بفيلم وثائقي مدته عشر دقائق يصوّر المراسلة رعنا رحيم بور كمتعاطفة مع النظام الإسلامي في إيران، ويتهمها بالوحشية. يمكن قراءة هذا المشهد على خلفية الانتقادات التي أثارتها مقالات صحيفة الغارديان البريطانية لعام 2018 حول إيران إنترناشيونال، والسياسات التي انتهجتها بريطانيا في دبلوماسيتها الإعلامية ضد السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي.
إلى ذلك، تدعم السعودية بشدّة المعارضة الإيرانية التي قامت بدورها بانتقاد BBC، واتهمت مراسليها بأنهم جزء من “لوبي إيران” وأنهم “عقبة أمام تغيير النظام”، مع العلم أن مراسل BBC بهمن كلباصي واجه اثنين من المسؤولين الإيرانيين في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، وسألهم عن “وحشية الحكومة الإيرانية المميتة تجاه المتظاهرين” بأسلوب منحاز جدًا إلى المعارضة، لكنه عندما طولِب في مظاهرة نيويورك التي نظمها معارضون إيرانيون، بأن يردّد معهم “الموت للجمهورية الإسلامية”، لم يفعل ذلك التزامًا بمعايير الحياد في هيئة الإذاعة البريطانية، وعندما غادر، أطلق عليه أفراد من الحشد صيحات استهجان واعتبروا أنه “غير مشرف”، وهو مصطلح غالبًا ما يطبقه المتظاهرون على أفراد قوات الأمن الإيرانية.
وفي حركة تُقرأ على أنّها سعودية أيضًا قبل شهرين، احتجّ أنصار المعارضة الإيرانية خارج مقر هيئة الإذاعة البريطانية في لندن وهم يهتفون “BBC، عار عليك!” والجدير ذكره أن رضا برشيزاده هو عضو في هيئة التحرير باللغة الفارسية في قناة العربية، وهي مملوكة علنًا لأفراد العائلة المالكة السعودية. وهو ينتقد بشكل متكرر تغطية BBC فارسي.
BBC وأوهام الحياد
تكشف هذه الخلافات عن بنيوية التحيّز السياسي لمشغلي المنافذ الإعلامية، صحيح أنّ عداء إيران يجمع بريطانيا والسعودية في معسكر واحد، إلا أن الخلافات الداخلية تظهر عامودية لتثبت أن الحياد ليس إلا أوهام سيقت للناس، وأن كلا النظامين البريطاني والسعودي استخدما منصاتهما الإعلامية كأدوات دبلوماسية تعكس سياستهما الخارجية.
يتمّ تشغيل قناة BBC فارسي منذ 14 كانون الثاني (يناير) 2009 بميزانية قدرها 23.4 مليون دولار من وزارة الخارجية البريطانية والكومنولث، ويزعم خبراء أن “الجمهور يعتبر هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) الناطقة باللغة الفارسية، واحدة من أكثر القنوات الإخبارية الدولية موثوقية وحيادية وموضوعية في العالم”. إلا أنّ هذا الادعاء يثير مجموعة من الأسئلة كالتالي:
هل تدفع الحكومة البريطانية كل هذه الأموال الطائلة في مجال الإعلام، لكي تنقل الحقيقة للشعب الإيراني وتعلّمه الحياد في نقل الأخبار فقط؟ وهل يتم إرسال الأخبار من أجل المعلومات فقط أم أن هناك أهدافًا خفية لتعميمها؟ ماذا عن الزوايا التي تعالج بها BBC الأخبار، هل تحصل من دون بتر أو اجتزاء أو زيادة أو نقصان؟ ومن يقرّر إذا كانت التغطية واقعية أو كانت تضخيمًا وتهويلًا في مجمل الإعلام؟
الواقع أن الحياد في الإعلام ليست سوى أوهام تقودها الدبلوماسية السياسية، فالحياد في الإعلام هو أن تنحاز للسياسة، وما الخلاف مع إيران إنترناشونال إلا انحياز للسياسة البريطانية ضد السعودية بعد اغتيال خاشقجي، وهي بدورها امتداد للإعلام الأمريكي.