لا تعد أزمة الطاقة في الدول الأوروبية أمراً مستجداً، اذ انها قد بدأت مع أولى تداعيات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. إلا ان وتيرة التدهور المتسارعة وانعكاساتها المباشرة على القطاعات الاقتصادية على اختلافها، جعلت من الأمر أكثر تعقيداً، وأخطر مما كان متوقعاً. حتى باتت عناوين الصحف والقنوات التلفزيونية العالمية، تستهل أخبارها، بالأنباء السيئة، كما عنونت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، التي توّجهت بنصيحة إلى الأوروبيين، بأن عليهم “الاستعداد لانقطاع كهربائي طويل الأمد”.
تقول هالي زاريمبا، الصحفية في منصة Oilprice المتخصصة في الطاقة، في إطار شرحها لخطورة الأزمة في الدول الأوروبية ان “الأزمة الحالية ألقت الضوء بشكل صارخ على مواطن الضعف الاقتصادية في أوروبا”، وتشير إلى ان “أزمة الطاقة في أوروبا تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية”.
تحذر التوقعات السنوية للطاقة لعام 2022 الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية (IEA) من أننا نعيش حاليًا في “أزمة طاقة عالمية ذات عمق وتعقيد غير مسبوقين…وليس هناك عودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الازدواج غير المسبوق، بين صدمات وباء فيروس كورونا والعملية العسكرية في أوكرانيا. اذ ان هذه الاحداث مجتمعة، أعادت تشكيل تجارة الطاقة في جميع أنحاء العالم، لكن موجات الصدمة للاقتصاد العالمي بدأت للتو.
ينظر الكثيرون إلى عجز الطاقة الحالي في أوروبا على أنه نوع من البطولة، تقول زاريمبا، حيث تعرض الاتحاد الأوروبي لضربة اقتصادية هائلة من أجل فرض عقوبات على الكرملين في مجال الطاقة. ولكن بالإضافة إلى ابداء الإعجاب، فإن تصرفات أوروبا تثير قلقًا كبيراً. أسعار الغاز حاليًا أعلى بـ 6 مرات من متوسط المعدلات الطبيعية، وتشير المعلومات الجديدة إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة الحقيقية بنسبة 10٪ يرتبط بزيادة الوفيات بنسبة 0.6٪ خلال فصل الشتاء، وهو ما يعادل أكثر من 100 ألف حالة وفاة إضافية لكبار السن في جميع أنحاء العالم، في أوروبا في الأشهر المقبلة. كما تعاني غالبية المدن الأوروبية حالياً، من انقطاع الكهرباء المتقطع لتوفير الطاقة، تخفيضات مؤقتة في خدمة الهاتف المحمول والإنترنت، أغلاق المدارس أبوابها بسبب نقص الإضاءة والحرارة. حتى إشارات المرور لم تعد تعمل بشكل دائم.
تتزايد المخاوف بشأن إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي و “الشعبوية الاقتصادية الأميركية” والخلافات الجيوسياسية التي تهدد القدرة التنافسية طويلة المدى للاتحاد الأوروبي والدول غير الأعضاء، بما في ذلك بريطانيا”، ووفقًا لتقرير الإيكونوميست عن الآثار المستمرة للأزمة، “لا يقتصر الخطر على ازدهار القارة الأوروبية، بل إن صحة التحالف عبر الأطلسي معرضة للخطر أيضًا”. انتقد العديد من الرؤساء الأوروبيين استراتيجيات الطاقة الحمائية والقومية للولايات المتحدة، بما في ذلك قانون خفض التضخم الأخير، الذي خصص 400 مليار دولار من الحوافز للطاقة والتصنيع والنقل في واشنطن.
ألقت الأزمة الحالية الضوء بشكل صارخ على مواطن الضعف الاقتصادية في أوروبا. اذ إن الاعتماد طويل الأمد على الوقود الأحفوري الروسي، جعل من الابتعاد عنه يدفع بالفعل العديد من الدول إلى أحضان الصين، مما يخاطر بنفس النوع من نقاط الضعف وصدمات الطاقة المستقبلية إذا قررت تلك الدولة ممارسة سلطتها على العديد من معادن الأرض النادرة وسلاسل إمداد الطاقة النظيفة الأخرى التي تسيطر بكين عليها، تقريبا بشكل كامل. لقد سمح الغرب للصين بالتنافس خارج حدودها وابتكارها فيما يتعلق بتكنولوجيا الطاقة النظيفة، وسيكون الانتقال إلى الطاقة النظيفة بتكلفة منخفضة أمرًا مستحيلًا على المدى القريب دون التقرب من بكين. وبينما تدور كل من الولايات المتحدة والصين حول العربات وتميل إلى السياسات الحمائية والمحلية أولاً، تشير مجلة الإيكونوميست إلى أن أوروبا، “بإصرارها الغريب على التمسك بقواعد منظمة التجارة العالمية بشأن التجارة الحرة، تبدو وكأنها مبتذلة”.