يكثُر البحث عن حقيقة تبدّل معالم النظام الدولي، الذي بات يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب. وفي ذورة الحرب الأوكرانية الروسية، والكباش الأميركي الصيني، كثر الحديث لدى المنظّرين حول أطروحة تراجع الهيمنة العالميّة للولايات المتّحدة. بعض الخبراء الأميركيين يحاول البحث على تقبّل هذا الواقع، والتخطيط لهذا التراجع وإدارته ومرحلة ما بعد نظام اليهمنة الأميركية. وعلى حدّ تعبير المفكر الأميركي الشهير روبرت كابلان، فإنه ليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آلية مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل من أمد بقائها كأمّة قوية.
كذلك يتحدث علماء وسياسيون أميركيون كستيفن وولت، وهنري كيسنجر وغيرهم عن تراجع النموذج الأميركي الاستثنائي، الذي يتفوّق عالمياً ويجذب إليه شعوب العالم، ودائماً ما يطالبون بضرورة التعاون مع الدول الأخرى، لا سيما الصين لأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد قادرة على أن تكون هي القائدة للعالم. ويقول بول كينيدي في كتابه “صعود القوى العظمى وهبوطها” إن وصول الولايات المتحدة إلى نقطة “التمدد الزائد” للإمبراطورية، هو سبب الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية البنيوية التي تفاقمت في الولايات المتحدة في العقود الماضية.
ويحذّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الولايات المتّحدة الأميركية من الانعزال عمّا يجري في العالم. كذلك، يحذّر في كتابه النظام العالمي من خطورة الانتقال إلى الميدان المفتوح لأكثر المساعي التوسعية وأكثر اللاعبين عناداً. وهو يجزم بأنّ المفهوم العام الذي يستند إليه النظام العالمي في عصرنا الحديث يمرّ بأزمة حقيقية، ولعلّ الاضطرابات والحروب الدائرة رحاها في أكثر من منطقة في العالم خير دليل على عمق هذه الأزمة. ويرى كيسنجر أنّ النظام العالمي الجديد يستحيل أن يكون أحادي القطب، بل ينبغي أن يكون متعدّد الأقطاب، مشتركاً بين الولايات المتّحدة والصين، معتبراً أن لا مناصّ من عالم متعدّد الأقطاب، يسوده اقتصاد السوق.
من ناحيته يقول جورج فريدمان في كتابه “العشرية القادمة” الصادر في العام 2011؛ إنّ الولايات المتحدة وجدت نفسها تصارع في عالمٍ معقّد بسبب “التوسع الزائد” غير المخطط له، حيث امتدت مصالحها وقواتها في معظم أرجاء العالم.
ويعيد المؤرخ الأمريكي موريس بيرمان في دراسة له بعنوان ( Why America Failed: The Roots of Imperial Decline ) التراجع الأمريكي إلى عوامل أربعة تدفعه باستمرار، وهي: تنامي الفوارق الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي، وتناقص العائد من الاستثمارات في البنى الاجتماعية، وتراجع الفكر النقدي، ثم ما أسماه الموت الروحي للولايات المتحدة. بل إنه يعيد بعض هذه التناقضات إلى بنية قيمية متناقضة بين الشمال الذي تسيطر عليه فكرة السعي المتواصل لملكية الثروة دون أي قيود، وبين الجنوب الذي تسيطر عليه قيم الشجاعة والشرف والود.
ويرجع البعض هذا التراجع، إلى تراجع الليبرالية وبداية سقوط النموذج الليبرالي حيث يقول باتريك ج. دنيين في كتابه لماذا فشلت الليبرالية؟ WHY LIBERALISM FAILED إن نهاية الليبرالية في الأفق، كما أنه يُوضح أن النظام الليبرالي يتآكل ويتلاشى من داخله، لأسباب نظرية وعملية لا يمكن إصلاحها مرة أخرى، فيرى أن هذا الانهيار قد يستمر سنوات طويلة لكن نهاية هذا النظام حتمية كما هو حال كل الأيديولوجيات التي نشأت ثم اندثرت في الماضي. وهو يؤكد على تزايد عدم الرضى عن النظام الليبرالي، فالاختلال على المستوى السياسي، التفاوت الاقتصادي، سيطرة التكنولوجيا، التمزق الاجتماعي وتزايد النزعة الفردية وغياب الشعور بالألفة وغيرها من المشاكل سوف تتفاقم بالمجتمعات الغربية. بناءً على ذلك فإن نهاية الليبرالية في الأفق ومسألة وقت لا غير. فهو يؤكد أن المشكلة ليست في برنامج أو ممارسة الليبرالية بل بالنظام الليبرالي نفسه.
ويشكّل السعي الحثيث للوقوف في وجه الهيمنة الدولية الأميركية سبباً واضحاً لتأجيج الصراعات العالمية. بالتالي، فإنّ تشكيل تحالف ضدّ الهيمنة الأحادية القطبية للولايات المتّحدة الأميركية، والتحوّل من مجرّد التماشي واحتواء السيطرة، إلى البدء في الانتقال إلى المواجهة، يعني بدء التراجع في النظام القائم على الهيمنة، ما يؤدّي إلى استخلاص نتائج تُظهر أنّ مشروع الهيمنة يتداعى، خصوصاً أمام تحوّل النظام الدولي إلى التعدّدية القطبية.
ويمكن القول إن الهيمنة الأميركية قد لا تكون طويلة كما يخال البعض، لا سيما أننا نرى الإخفاقات المتعددة للإدارات الأميركية، فالحقائق التي نشهدها بشكل يومي خاصة إبان الحرب الأوكرانية تجعلنا نقول إن ما يحصل في تركيبة النظام الدولي ما هو إلا مرحلة انتقالية تحمل موجات ذات خطورة شديدة على الاستقرار العالمي، تؤدي إلى تراجع هيمنة واشنطن، وإن كانت الولايات المتحدة هي المسيطرة إلى الآن، إلا أن روسيا والصين وغيرها من الدول تقاتل للوصول نحو قمة النظام الدولي ايضاً.