رغم أن الكثير من الملفات الأردنية المتداخلة (محلياً وإقليمياً) مع وظيفة الحيّز الجغرافي الأردني كدولة حاجزة قد تستدرج المحلل لمحاولة ربطها أو وضعها في كل انتفاضة مطلبية من الانتفاضات المتتالية، منذ الهبّة الأكبر في تاريخ الاردن عام 1989 بمدينة معان جنوب المملكة، إلا أن الوضع الأردني الذي يستمر ساخناً على الأرض في المدن الجنوبية وصولاً إلى العاصمة عمان منذ أسبوعين، يرتبط بكل اختصار بأربعة عوامل ضعف بنيوية ووظيفية أردنية، تكبح منذ خمسينيات القرن الماضي نمو وازدهار الأردن، وهي:
– حاجة الأردن للمعونات البريطانية والامريكية في ظل عدم وجود قطاعات منتجة بسبب سوء التخطيط الاقتصادي والتي اعتمدت الليبرالية المالية الاقتصادية للأردن لتحفظ مصالح أقلية نخبوية لا تتعدى الـ 2% من مواطني الاردن.
– الفساد الشامل الذي يكاد يتداخل مع كل مباني الهيكل الرسمي الأردني بدءاً من الملك وديوانه وحاشيته وصولاً إلى معظم مفاصل الادارة العامة والخاصة إن لم نقل كلها.
– تراجع الدور الوظيفي للأردن كدولة حاجزة بين المحيط والكيان المؤقت وصولاً إلى بدء ضمور هذا الدور مع الهجمة العربية والخليجية للانضمام إلى “الحلف الابراهيمي التطبيعي” الحديث.
– التهديد الدائم بتحويل الاردن إلى وطن بديل للفلسطينيين.
فمنذ تأسيس الاردن بشكله الحالي (المملكة الاردنية الهاشمية) في 25 أيار 1946 على يد بريطانيا، على أعتاب “نكبة فلسطين”، وهذا البلد ضعيف الموارد الاقتصادية يعيش على المعونة البريطانية والسعودية والخليجية وعلى الاستثمارات التي تأتي من المحيط ومن الخارج. ومنذ اعلان مبدأ آيزنهاور عام 1957 “الذي ركّز فيه على أهمية سدّ الفراغ السياسي الذي نتج في المنطقة العربية بعد انسحاب بريطانيا منها”، تبنّت واشنطن المملكة الاردنية واعتبرتها شريكاً أساسياً بمواجهة ما أسماه “آيزنهاور” المد الشيوعي، ورعت الولايات المتحدة الاردن بمساعدات سنوية سخيّة، كما التزمت بتسليحه وألزمت دول الخليج برعايته المالية وبمساعدته متى ما احتاج لذلك، إلاّ أن الاردن قليل الموارد والذي اعتمد اضافة إلى المساعدات على ثروته البشرية المتعلمة والكفوءة، فقد بدأ منذ بداية سبعينيات القرن الماضي يتحول إلى الدولة العربية الأكثر نزيفاً في العقول والكفاءات، وذلك بسبب هجرة معظم النخب الاردنية المتعلّمة إلى الخليج وأوروبا والقارة الامريكية، الذي كان سببه الاول هو اقتصار الحوكمة على المجموعة “الأوليغارشية” المحيطة بالملك، والتي كانت تمثل القبائل الاردنية الأربعة الكبرى والرئيسية التي اعتمد عليها الملك في الجيش والمخابرات والمؤسسات العامة، مما خلق ما يشبه الدولة الموازية التي تحكّمت تقريباً بكل شيء، بدءاً من لقمة عيش الشعب وصولاً إلى فرض سياسات اقتصادية وتنموية “ليبرالية” أقل ما يقال فيها أنها كانت فاشلة ولا تصلح للتطبيق في الاردن في ظل غياب أي حياة سياسية حقيقية مع إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية عام 1957، ليتبعها تجميد للحياة البرلمانية عام 1974 بسبب تبعات حرب 1967، وما أعقبها من تطورات سياسية وديموغرافية غيّرت وجه المنطقة، إلى أن اتخذ القرار الحاسم عام 1988 لإعادة الحياة البرلمانية، فبُعثت الديموقراطية في الأردن من جديد، وألغيت في عام 1992 الأحكام العرفية.
خلق هذه الظروف الاستثنائية التي امتدت لمدة 35 عاماً (1957-1992) ما يمكن تسميته ببيئة حاضنة مثالية للفساد الذي امتدّ ليشمل كل المؤسسات وبرامجها وخططها، بما فيها التعاقدات والاستثمارات التي لم تكن وللأسف تحسب للقاعدة الشعبية أي حساب.
سوء التخطيط والفساد أكبر أزمات الاردن
استمرت هذه الحال بعد وفاة الملك حسين عام 1999 لتتعاظم مع حلول ولده عبد الله الثاني (البريطاني المنشأ، الامريكي الإعداد)، وأصبح داء الفساد سوساً ينخر عظم المملكة مع زواج الملك الجديد من زوجته رانيا الذي أتى بكل عائلتها ونصبه على عرش الفساد في المملكة، وثمة من يقول إن فساد عائلة رانيا كان لمصلحة عبد الله الثاني الذي كان لا يثق بإخوته وعمومته وأبناء عمومته.
عموماً فرضت الترتيبات الجديدة للمنطقة بعد الربيع العربي وتداعيات هذه المرحلة تحولات كبيرة سيما في دور الاردن الذي اُديرت فيه من خلال غرفتي “الموك” معظم العمليات التي استهدفت أمن واستقرار جنوب سوريا وصولاً إلى العاصمة دمشق، وقد تدفّقت أموال طائلة على الاردن خلال تلك المرحلة التي امتدت لخمس سنوات. تبيّن بعدها أن معظم ما صٌرف في الاردن ذهب إلى جيوب أركان الدولة العميقة وأن الشعب لم ينل من ذلك سوى زيادة في الاسعار ومصاعب الحد الأدنى من المعيشة وزيادة في الاعباء على الشعب الأردني التي نتجت عنها نزوح حوالي مليون لاجئ سوري إلى بلادهم.
ما يدهش في الاردن أن الأزمة أو الهبة الأخيرة التي بدأت مطلع الشهر الحالي بإضراب عمّال النقل المحلي والخارجي احتجاجاً على الرفع الكبير لأسعار المحروقات وانتقال هذه الاحتجاجات المطلبية إلى معظم المدن الرئيسية بما فيها العاصمة عمان، بدأت بعد أيام من موافقة الادارة الامريكية على معونة مدنية وعسكرية توازي المليار ونصف مليار دولار، هذا بالإضافة إلى تكاليف تأجير 14 قاعدة عسكرية أردنية للقيادة المركزية الامريكية، يضاف إلى ذلك قيام السعودية والامارات وقطر بتقديم معونة شهرية بقيمة 60 مليون دولار للأردن، الذي دُعم سعودياً أيضاً بودائع خليجية في البنك المركزي الاردني بلغت حوالي 800 مليون ولار.
كل هذه المعونات لم ترفع عن كاهل المواطن الأردني أي شيء، بل أثقلت ظهره بأعباء إضافية، والخطير أن الحكومة ومن ورائها الملك صمّت أذنيها عن مطالب الأردنيين، مما وسّع التحدي أكثر.
تسلسل زمني للاحتجاجات
شهدت محافظات الجنوب في المملكة الأردنية منذ مطلع الشهر الجاري، عددًا من الإضرابات احتجاجًا على ارتفاع أسعار المحروقات، بدأت بسائقي الشاحنات الذين انضمّ إليهم سائقو سيارات الأجرة والحافلات العمومية أحيانًا.
فيما يأتي تسلسل زمني لتسارع الأحداث في المملكة:
1 تشرين الثاني: قررت الحكومة الأردنية رفع أسعار المحروقات للمرة السادسة على التوالي خلال عامين.
5 كانون الأول: قرر عدد من سائقي الشاحنات في محافظات عدة: كمعان والعقبة والكرك والزرقاء ومحافظات أخرى، تنفيذ إضراب احتجاجًا على قرار رفع أسعار المحروقات وخاصة الديزل، وامتد الإضراب إلى قطاع النقل البري ليشمل سائقي التطبيقات الذكية والأجرة والحافلات.
12 كانون الأول: اتفاق حكومي مع أصحاب وسائل النقل العام، على زيادة الدعم النقدي دون رفع أجور النقل على المواطنين، واتفاق على توقف إضراب الحافلات وسيارات الأجرة.
14 كانون الأول: اتخذت الحكومة الأردنية قرارات عديدة، منها تأجيل أقساط الديون على المواطنين والسائقين، وزيادة أجور شحن الحاويات.
17 كانون الأول: أعلن الأمن الأردني مقتل العقيد عبد الرزاق الدلابيح نائب مدير شرطة محافظة معان بعيار ناري في الرأس من قبل أشخاص وصفتهم الشرطة بالمخربين، وتوعّدت بملاحقتهم، وقالت إنها “ستضرب بيد من حديد كل من يحاول الاعتداء على الأرواح”.
17 كانون الأول: اعتبر الملك عبد الله الثاني أن “الاعتداءات وأعمال التخريب مساس خطير بأمن الوطن”، وتعهد بعدم السماح بحدوث ذلك.
17 كانون الأول: أعلن الأمن الأردني اعتقال 44 شخصًا في مناطق متعددة من المملكة، إثر اندلاع أحداث شغب في عدة محافظات.
18 كانون الأول: امتد الإضراب ليشمل عددًا من المحال التجارية، تضامنًا مع إضراب الشاحنات في محافظات الكرك ومادبا ومعان، وتصاعدت الأحداث بعد ذلك في بعض مناطق العاصمة ومحافظات أخرى، وشملت مظاهر احتجاجية مثل حرق الإطارات ووقفات احتجاجية.
18 كانون الأول: أفاد مدير الأمن العام اللواء عبيد الله المعايطة، بأن 49 عنصرًا أمنيًا أصيبوا خلال أعمال الشغب، وأنه تم الاعتداء على 70 آلية للأمن العام وأكثر من 90 آلية لمواطنين.
19 كانون الأول: أعلن الأمن العام الأردني مقتل 3 من عناصره وإصابة 5 آخرين خلال مداهمة مشتبه به في قتل العقيد الدلابيح، مشيرًا إلى مقتل المشتبه به الذي وصفه بيان بأنه من حملة الفكر التكفيري.
خلاصة واستنتاج
لا يبدو أن الاحتجاجات القائمة حالياً أكثر من تنفيس شعبي عن حالة اختناق اقتصادي ومالي في ظل رفع غير مسبوق للسلع النفطية على أبواب الشتاء الاردني القاسي نوعاً ما. ويبدو أن الحكومة والبرلمان والملك في وادٍ والشعب ونقاباته المحتجة في وادٍ آخر، ولن تخرج هذه الازمة من عنق الزجاجة إلاّ بتراجع الحكومة الاردنية عن قراراتها الموسومة “بغير الشعبية” أو أن تقدّم الدولة للشرائح الواسعة الأكثر فقراً ما يرفع عن كاهلهم الأعباء الإضافية التي تُضاف إلى ضرائب عالية يصل تأثيرها السلبي إلى المستويات الشعبية الاكثر فقراً. وما توسّع الهبّة المطلبية الاثنين الماضي ووصولها إلى العاصمة عمان وإصابة معظم القطاعات الاقتصادية المنتجة في المدن الرئيسية بالشلل، إلاّ انعكاس على استعصاء المشكلة في ظل هروب الدولة من مواجهة الحلول.
على المستوى السياسي، ثمة جهات نافذة في العائلة المالكة وفي القبائل الكبرى ثبت ضلوعها بمحاولة الانقلاب على حكم عبد الله الثاني العام الماضي في 3 نيسان 2019، تتحين الفرص للعودة بعدما أجهض فشل محاولتها الانقلابية مشروعاً يبدو أنه نُسّق لتغيير وجه المملكة وإلحاقها بقافلة المطبعين العرب، الذين رفض عبد الله الثاني حتى الآن الانضمام إلى صفّهم، وطرح شروطاً كبيرة أمام تحقيق ذلك، ومما يدفع على التساؤل غموض وصمت الادارة الامريكية والمسؤولين الصهاينة عن أي تعليق سلبي أو إيجابي من تلك الأحداث، رغم أن الطرفين “أبدع” في شن حملة شرسة على إيران التي لم تصل أحداثها حتى في عز حراك أيلول الماضي إلى شل البلاد وتعطيل المؤسسات ومرافق الاقتصاد والانتاج.
وهذا ما يمكن قراءته باتجاهين:
– الاتجاه الاول “وهو مرجح” وهو أن الادارتين الامريكية والصهيونية لا تريدان الضغط على الملك عبد الله الثاني وتفسحان المجال له بحل الازمة على طريقته.
– الاتجاه الثاني “وهو ضعيف” أن تكون الادارتين الامريكية والصهيونية وراء قطبة مخفية ترتبط بالتصعيد وأنهما تنتظران الظروف الملائمة للتحرك.
مما تقدّم، لا ينبغي التعامل مع الهبّة المطلبية الحالية إلا بعين ورؤية المطالب الشعبية والحالة الشعبية الاقتصادية والمعيشية المزرية، حيث أنّ التدخلات القليلة التأثير هنا وهناك، ليست بمستوى قلب “المجن” على الجميع، فحالما تطبّق الحكومة إجراءات التخفيف عن الفقراء، تنتهي الأزمة تلقائياً، بانتظار الهبة القادمة والتي ستليها.
المصدر: غرب آسيا