الواقع أنّ الحرب بطبيعتها لا يمكن التنبؤ بنتيجتها. عندما درس ابن خلدون أسباب الظفر في الحروب، رأى منظر علم الاجتماع الأول والذي درس وعايش الكثير من الحروب، بأنه “لا وثوق في الحرب بالظفر وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد”، بل هو من قبيل “البخت والاتفاق” أيضًا، أي الحظ. و”ربّ حيلة أنفع من قبيلة”. تقول العرب. يراهن الغرب على عتاد أوكرانيا اللامتناهي حتى آخر قطعة سلاح في أوروبا، وعلى نفاذ العتاد الروسي، في حين يراهن بوتين على توقّف الغرب عن دعم أوكرانيا.
رهانات وتنبؤات متقلّبة
منذ بداية الحرب الأوكرانية، كان ثمة الكثير من الرهانات على استنزاف القوات الروسية وأسلحتها قبل آخر نقطة دم لدى قوات المرتزقة التي تعمل في أوكرانيا حتى قبل أن تسقط القوات الأوكرانية. وعندما بدأ الرئيس الأوكراني زيلينسكي بمحاولاته لتوريط الناتو من خلال عمليات العلم الزائف، بعد فضيحة بولندا، أصبح الحديث عن خطر زيلينسكي على المجتمع الدولي واسعًا في الصحافة الغربية. أخطأ هذا الرجل في تخطي الخطوط الحمراء التي يريدها الغرب، وهي بكل بساطة: أن يبقى الصراع الروسي الأوكراني حتى آخر جندي أوكراني داخل أوكرانيا. وبدأت الانقسامات والاحتجاجات داخل دول الاتحاد الأوروبي التي لم تعد على قلب رجل واحد في الصراع الروسي الأوكراني، وفي حين يحتاج النصر إلى “عصبية واحدة جامعة لكلّهم”، كما يقول علماء الاجتماع على لسان أولهم ابن خلدون، إلا أن هؤلاء يقاتلون بعصائب متعددة، ليست القومية أكبرها.
في بداية عام 2022، كان أي محلل عسكري أو استخباري سيسخر لو قيل له إن أوكرانيا ستظلّ دولة مستقلة بعد ثمانية أشهر. إلا أن القوات الأوكرانية ومن خلفها الدعم العسكري والاستخباري الغربي بالإضافة إلى جيوش المستشارين والمرتزقة، أعطوا أملًا بأنه من الممكن أن تتحدى أوكرانيا التوقعات. هل سيعلن بوتين النصر إذا تمكنت روسيا من الاستيلاء على دونباس بأكملها؟ وفي أواخر 2022 كانت غالبية التوقعات الغربية تدور حول حرب استنزاف طويلة. ثمّ بحلول أواخر تشرين الأول/سبتمبر، أدى تسلسل عمليات الهجوم المضاد الأوكراني إلى تقليص هذا التقدير، لكن توقفًا جديدًا في ساحات القتال الرئيسية منذ منتصف الشهر نفسه أعادها إلى الترجيحات الأولى. وفي حين لا تزال موسكو تؤكد استعداد روسيا للانتصار في حرب طويلة الأمد ، إلا أنّ السائد في استشرافات الموقف أصبح تقييم خيارات التصعيد النووي.
مجموعة من الأسئلة حول: إمكانية استعادة أوكرانيا للأراضي التي ضمتها روسيا بعد أن حصلت على أنظمة أسلحة هجومية جديدة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؟ وهل تصمد العزيمة والوحدة الغربية مع تفاقم أزمة الطاقة العالمية؟
ليس ثمة أجوبة لهذه الأسئلة على الرغم من كافة المقالات والتحليلات ومحاولات تقدير الموقف والأوراق السياسية لاستشراف المستقبل. إلا أنه ثمة سيناريوهات محتملة يتم تداولها بأشكال متعددة على الشكل التالي:
السيناريو الأول: انتصار روسيا
في البداية، تنتزع روسيا النصر ويعمل الجيش الروسي على تحقيق الاستقرار في الخطوط الأمامية خلال أشهر الشتاء، وبينما تقوم ببناء كتائب جديدة من المجندين الجدد، يمنع الجمهوريون في أمريكا حزم أسلحة جديدة لأوكرانيا، مع نفاد الإمدادات من أوروبا. وبحلول الربيع تبدأ الوحدات الروسية الجديدة بالهجوم وتجبر القوة الأوكرانية على التراجع، مع مواصلة قصف البنية التحتية للطاقة والمياه في أوكرانيا، ومع حلول الصيف تستولي روسيا على كريفي ريه، وهي مدينة صناعية رئيسية شمال خيرسون، وسلوفيانسك وكراماتورسك في دونيتسك. وبعدها تحث الدول الغربية أوكرانيا على قبول العرض الروسي بوقف إطلاق النار.
السيناريو الثاني: الجمود
وهو الأكثر احتمالًا، حيث تحشد روسيا قوات التعبئة، ويتم تشكيلهم في وحدات مشاة خفيفة أساسية، تفتقر إلى المركبات المدرعة وربما غير صالحة للهجوم، لكنها قادرة على ملء الخنادق والتحصينات.
يحاول بوتين بعد ذلك إطالة أمدها بما يكفي لتقويض الاقتصاد الأوكراني، وتقويض معنوياتها من خلال الضربات على البنية التحتية المدنية وإرهاق شركائها. تكافح أوروبا لملء مواقع تخزين الغاز خلال عام 2023، وبذلك تكون خطة بوتين هي الصمود حتى أواخر عام 2024، حيث يأمل أن يستعيد دونالد ترامب البيت الأبيض وينهي الدعم لأوكرانيا. ترجح التقديرات أن هذه مقامرة عالية المخاطر: قد تقلب الرأي العام الروسي ضد الحرب، ويذبل اقتصادها ويبدو بوتين أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى.
السيناريو الثالث: هزيمة روسيا
وهو الأكثر تشجيعًا في الغرب، حيث تدفع الدول الغربية بأنظمة دفاع جوي جديدة إلى أوكرانيا، مما يحد من تأثير التكتيكات الروسية، وتحافظ أوكرانيا إلى المبادرة والزخم وليس فقط الصمود، وعلى الرغم من أن هذا السيناريو هو الأكثر تشجيعًا في الغرب، إلا أنه خطير ليس فقط لأوكرانيا، بل للدول الغربية، إذ يتحتّم على الولايات المتحدة وأوروبا الاستعداد لاضطراب إقليمي وعالمي. يمكن أن يأخذ الاضطراب شكل الانفصالية وتجدد الصراعات في روسيا وحولها والدول التي تدعمها، حيث إن روسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تؤدي هزيمة روسيا أيضًا إلى تصلب النظام في ظل زعيم قومي جديد ومنتقم، والذي سينتظر فرصة أخرى لفرض إرادته على أجزاء أخرى من المشروع الروسي.
فجوة في النظام الدولي
الواقع أن الحديث عن خيارات التصعيد النووي ليس مطروحًا بشكل جدي في السيناريوهات، خاصة أنّ نتائجه المدمرة للأرض غير متصوّرة. إلى ذلك، فإن تحوّل روسيا إلى دولة فاشلة تمزقها الحرب الأهلية من شأنه إحياء الأسئلة التي كان على صانعي السياسة الغربيين التعامل معها في عام 1991: مثلًا، من الذي سيُحكم السيطرة على الأسلحة النووية الروسية؟ يؤمن الجميع أن هزيمة روسية بطريقة غير منظمة ستترك فجوة خطيرة في النظام الدولي.
الكاتب: زينب عقيل