في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون السياسات الخارجية للدول مهتمة بدعم الاستقرار والسلام، خاصة في المناطق الاستراتيجية لحكوماتها، يتمّ ربط التسليح العسكري وحتى المساعدات التنموية بما تريده الدول الكبرى. ثمة مصطلح يتم تداوله والتنظير له بكثرة مؤخرًا دون أن يعرف سياسيوه أهدافه وتركيزاته الدقيقة، ولا ديناميات عمله بشكل واضح، وهو مصطلح “السياسات الخارجية النسوية”. الواقع أن الغرب يبرع في المصطلحات غير الواضحة للوصول إلى أهدافه، يتحرك داخلها في فنّ الممكن، ضمن الفسحة الغامضة من المصطلح، انها “استراتيجية عدم الوضوح” المطاطة. خاصةً أنه ليس معلومًا ما الذي يجعل السياسة الخارجية نسوية؟
تركيزات السياسة الخارجية النسوية
لدى البحث عن السياسة الخارجية النسوية ومراجعتها، لم تحدّد العينة التي تعتمدها صراحة ما الذي يجعل السياسة الخارجية نسوية، والعديد من المقترحات التي قدمتها المنظرات النسويات والحركات النسوية تفتقر إلى تعريف واحد ومتماسك. لذا، يبدو أن الدول المتحمسة لها ركّزت على تغيير النماذح الموضوعة من السياسات لتشمل ببساطة النساء، وما يسمى النوع الاجتماعي في نظرياتها وممارساتها.
بالنظر إلى إعلان الدول لطبيعة سياساتها الخارجية، وسعي دول أخرى للحاق بها، يمكن ملاحظة ثلاث دول وردت مصطلحات النسوية بشكل واضح في أدبياتها وفي سياساتها العملية. السويد اعتبارًا من 2014 حيث ظهر المصطلح لديها لأول مرة، وكندا 2017، واعتبارًا من 2019 فرنسا. أما ألمانيا فانضمت مؤخرًا هذا العام 2023 حيث أقرّت السياسة الخارجية النسوية في اتفاقية الائتلاف الحكومي. أما في الولايات المتحدة، تسعى المنظمات والفعاليات التابعة للديموقراطيين لإغراء الشعب الأمريكي بأن الولايات المتحدة قادرة أن تكون قوة عظمى إذا اعتمدت سياسة خارجية نسوية، إلا أن الجمهوريين يقفون لهم بالمرصاد. حتى أن إقرار القوانين الخاصة بالحد من العنف ضدّ المرأة تتأرجح بحسب الحزب الحاكم.
في السويد
لا مفاجأة أن تكون السويد هي الرائدة في هكذا مشاريع. وفقًا لكتيب السياسة الخارجية النسوية السويدية، فإنها تغطي ثلاث مجالات: سياسة الأمن الخارجية والوطنية، التعاون الإنمائي، وسياسة التجارة والترويج. وتعتبر السياسة المساواة بين الجنسين هدفًا ذا أولوية في حدّ ذاتها وكأداة للنهوض بأولويات السياسة الخارجية الأخرى. فيما يتعلق بالتمثيل، تتمتع السويد بتاريخ طويل من وزيرات الخارجية وتمثيل قوي في البرلمان، وفي ارتباطاتها الدبلوماسية وأولويات المساعدة الخارجية. فيما يتعلق بالموارد أيضًا، فبحسب الحكومة السويدية 90 في المائة من مساعدات التنمية الخارجية السويدية (ODA) مخصصة للمساواة بين الجنسين، على الرغم من أن المبلغ المحدد بالدولار المستثمر غير واضح. ولم يتم الإعلان عن أي توثيق واضح لمبلغ التمويل الذي تم تخصيصه لتنفيذ السياسة الخارجية النسوية حتى اليوم.
وزيرة خارجية السويد السابقة مارغوت والستورم
في كندا
عندما أطلقت كندا سياسة المساعدة الدولية النسوية الأولى في العالم عام 2017 (FIAP). تجاهلت تضمين مجالات السياسة الخارجية للدبلوماسية والدفاع والتجارة، وركزت على ما أسمته “النهج النسوي للمساعدة الإنمائية”. تلتزم 95% من مساعداتها الخارجية للمساواة بين الجنسين. وفقًا لحكومة كندا، “تسعى إلى القضاء على الفقر وبناء عالم أكثر سلامًا وشمولية وازدهارًا. تؤمن كندا إيمانا راسخا بأن تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات هو النهج الأكثر فعالية لتحقيق هذا الهدف”.
قام رئيس الوزراء جاستن ترودو – وهو نفسه نصب نفسه بالنسوية – بوضع نموذج التمثيل من خلال تعيين وزيرة للخارجية، ووزيرة تنمية نسائية، والحكومة الأكثر تنوعًا في التاريخ الكندي. ومع ذلك، فإن السياسة الكندية لا تتعهد “بتعطيل” هياكل السلطة الأبوية في مساعدتها كما تفعل السويدية، على الرغم من أنها تشمل المشاركة السياسية للمرأة كمجال ذي أولوية.
في فرنسا
تتعامل الاستراتيجية الدولية للمساواة بين الجنسين لعام 2018 مع المساعدة الأجنبية فقط. لم يتم تعريف السياسة الفرنسية صراحةً على أنها نسوية، على الرغم من استخدام الكلمة مرة واحدة، في إشارة إلى الانتداب الفرنسي لدعم حقوق المرأة والمجتمعات المدنية النسوية كوسيلة للدفاع عن قيم فرنسا. ومع ذلك، فقد أشار المسؤولون الفرنسيون باستمرار إلى النهج الفرنسي على أنه “الدبلوماسية النسوية الفرنسية”. حددت أولويات في ثلاثة مبادئ: شاملة، قائمة على الحقوق، قائمة على الجندر.
السويد تتراجع
الواضح أن السياسة الخارجية النسوية لكل من السويد وفرنسا لا تقتصر على المساعدات التنموية، بل تتعدى إلى الدفاع والدبلوماسية، وفقًا لما ذكرته مارغوت والستروم، وزيرة الخارجية السويدية التي صاغت المصطلح، فإن إشراك المرأة في مفاوضات السلام يزيد من احتمالات نجاحها. وثبت أن إشراك المرأة في مفاوضات السلام له هذه الآثار الإيجابية. فقد كشف تحليل إحصائي لمائة واثنين وثمانين اتفاقية سلام موقعة بين عامي 1989 و2011 أن اتفاقيات السلام التي تشارك فيها النساء، من المرجح أن تستمر بنسبة 35% لمدة خمسة عشر عامًا.
إلا أن ثمة تحوّل حصل على يد حزب المحافظين، حيث أعلنت حكومة أولف كريسترشون أنها ستتخلى عن “السياسة الخارجية النسوية”، التي أطلقتها حكومة حزب الاشتراكيين الديمقراطيين السابقة منذ العام 2014. إذ تعتبر أن السياسة الخارجية هي شيء يجب أن “يتعلق بحماية المصالح السويدية”، كما قال وزير خارجيتها توماس بيلستروم في مقابلة مع صحيفة سفينسكا داغبلاديت. وأضاف: “إن استخدام مصطلح السياسة الخارجية النسوية يعني أن كل الجوانب يجب أن تتميز بحقيقة أنها تدور حول النسوية. لكن ألا تحجب هذه التسمية حينئذ محتوى سياسة السويد الخارجية؟”.
جاء هذا الإعلان بعد عدة انتقادات بأن الحكومة السويدية أظهرت في عدة مناطق وبصورة مباشرة معارضتها لهدفها حول السياسة النسوية الخارجية. مثل قرار عدم السماح للاجئين بلم شملهم مع عائلاتهم. بالإضافة صادرات الأسلحة الى المملكة العربية السعودية والتي تمولها السويد وعلى مدى سنوات طويلة بالمعدات العسكرية والتي حيث تنتهك فيها حقوق المرأة والفتيات، إذ تعتبر رئيسة منظمة السلام السويدية أغنيس هيلستروم أن هذا التمويل يعطي دلالة واضحة حول اعطاء صفة الشرعية على النظام السعودي وذلك من خلال تزويدهم بالمعدات العسكرية”.
هل كانت هذه الأمور فعالة؟
ثمة تناقضات حصلت أيضًا في ألمانيا، حيث أثارت ادعاءات وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك عن حزب الخضر، حول انتهاجها لسياسة خارجية نسوية، انتقاداً واسعًاً في الأوساط الثقافية والسياسية الألمانية. لأن السياسة الخارجية النسوية يجب أن تكون سياسة سلام، بينما مواقفها وممارساتها تدعو إلى الحرب، وتسليح أوكرانيا، وفي الوقت الذي ارتفع فيه الأصوات النسوية خلال الاحتجاجات في إيران على خلفية وفاة مهسا أميني، اقترح هؤلاء في البوندستاغ سياسة خارجية توسعت لتشمل قوننة التدخل الاستخباري من خلال وسائط الاتصال مثل الاتصالات الهاتفية المشفرة والانترنت والاتصال عبر الأقمار الصناعية، إلا أن البرلمان لم يوافق عليها بسبب مصالح ألمانيا مع إيران.
وسواء اتجهت السياسات الخارجية النسوية نحو التنمية أو اتجهت نحو الدفاع، ثمة سؤال يطرح: هل هذه الأمور فعالة؟
ذكرت رفيعة زكريا في كتابها “ضدّ النسوية البيضاء” أن السياسيين الذين ينتهجون سياسات خارجية “نسوية“، قد يتخذون في الوقت نفسه، خياراتٍ أخرى تضرُّ النساء بشدة، مما يؤجج الصراعات التي تؤدي إلى اغتصابهن وإفقارهن. فإلى أي مدى تكون مطالبة الحكومات بإشراك المرأة اليمنية في محادثات السلام المتوقفة مفيدة ونسويَّة، في حين أنها هي التي تبيع الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية لاستخدامها في تلك الحرب؟ ومن هنا ترى رفيعة زكريا بأنه حتى المساعدات التنموية التي تخصِّصها الحكومات لتعزيز المساواة بين الجنسين، غالباً ما تؤدي إلى إضعاف نشاط المرأة على المستوى الجذري، وتحفيز الناس على السعي وراء سخاء المنظمات غير الحكومية بدلاً من التعبئة السياسية.
تقييم السياسات
لم يُذكر أو يُلاحظ أن سياسةً خارجية نسوية تمكنت من إضفاء طابع السلام بحسب ما هو مقرر لها، بل إنها تقيم الحروب لأجل المبدأ المناقض للحروب. ولم تظهر هذه السياسات سوى النفاق والمعايير المزدوجة لدى إدراج تمكين المرأة في جهود إنهاء الحروب، كما أنه لا يمكن لقضية المساواة بين الجنسين أن تنفكّ عن السياسة العالمية، حيث أصبحت الدول تنظّم سلوك الأفراد وحياة النساء بشكل كبير.
اللافت هو ما أسمته كندا “النهج النسوي للمساعدة الإنمائية”. هل هناك نهج نسوي ونهج ذكوري للمساعدة الإنمائية؟ وإذا كانت الفكرة من إقحام النسوية في السياسات الخارجية هي “السلام” كما بدا في بعض المواقف والتصريحات، فإن الأولى هو تسميتها بـ “السياسة الخارجية للسلام”. ذلك أنّ النساء لسنَ أدوات ليتمّ إقحامها.