إنّ تحديد مفهوم المقاومة بشكل دقيق، مشحون بالصعوبات لما يكتنفه هذا المصطلح من تعقيدات، وتشابك بسبب الاختلافات الفكريّة والأيديولوجيّة للمفكرين المهتمّين بهذا المصطلح، حيث شكّل موجة من الجدل السياسي والعقدي على مدى عقود من الزمن لما ينتابه من غموض في تحديد ركائزه والأسباب الموجبة التي غالبًا ما تأخذ الطابع السياسيّ والقانونيّ. لتحديد مفهوم المقاومة وادواتها وخصائصها، ودورها في مراكمة القوة وردع العدو، من الضروري التأكيد على أنّ بناء القوة سابق لبناء الدولة، باعتبار ضرورة الأولى (أي القوة) لتحقيق أول شرط من شروط بناء الدولة، وهو السيادة. ويعني ذلك بالتأكيد، سيادة الدولة على التراب الوطني، ودورها في رسم الافاق المستقبلية للبلد، وبالتالي سيادة قراره وخياراته وسياساته.
بالتأكيد أنّ قضية المقاومة بشكل عام لها علاقة بالدولة، وهناك العديد من التجارب العالمية التي لعبت فيها المقاومة دورا أساسيا لتحرير الدولة من الاستعمار والهيمنة الخارجية. وقد كان لهذه المقاومة دعامة أساسية في بيئتها الحاضنة التي تشكّل الدرع الواقي والمحفّز الأساسي لتحرير الأرض وتحقيق السيادة وكسب الحقوق. ثم بعد ذلك المساهمة في بناء الدولة الجديدة. من ناحية أخرى، نظريا، الدولة لها السيطرة المطلقة والوحيدة على وسائل العنف، حسب نظرية ماكس فيبر، التي تعطيها ككيان مستقل وسيد، حق استخدام القوة المشروعة قانونا من خلال ادواتها في بسط السيطرة والنفوذ. فشرط احتكار الدولة للعنف ووسائله ليس شرطا هامشيا لتجليّ الدولة الحديثة، بل هو شرط وجودي لا يمكن تصور الدولة والأمة بدون تحققه .لقد نشأت المقاومة في ظروف أملتها حالة الضعف في البنية السياسية للدولة، فكلما عجزت مؤسسات الدولة عن القيام بوظائفها الطبيعية تحركت مؤسسات المجتمع لملء هذا الفراغ ولكن وفق اجندات خاصة قد لا تتطابق بالضرورة مع الاجندة العامة التي يفترض ان تعبّر عنها الدولة.
من هذا المنطلق، ما كان يمكن للمقاومة ان تصل الى ما وصلت اليه من قوة ونفوذ لو لم تكن هناك حاجة ماسة لوظائف وأدوار تكفلت المقاومة بأدائها في ظروف معينة نيابة عن “الدولة”، وبدعم قوي وواضح من بنية مجتمعية حاضنة. فمن الواضح أن هذه الوظائف والادوار تمحورت حول التصدي لمخططات المشروع الصهيوني مثلا في لبنان وفلسطين. في الوقت الذي تبدو فيه بنية ” الدولة” هشة الى درجة تجعلها قابلة للانفراط عند اول منعطف، تبدو بنية المقاومة قوية ومتماسكة الى درجة تجعلها قادرة على مواجهة أعتى المحن والتحديات.
لا شك ان ضعف الدولة وعجزها عن القيام بمسؤولياتها الأمنية هو الذي دفع بأجيال جديدة من الشباب، الأكثر ثورية وايمانا بالمقاومة، للعمل على ملء هذا الفراغ. فمن المعروف أنّ الجيش التقليدي في كل دول المنطقة، أضعف من أن يواجه الجيش الصهيوني في حرب تقليدية. وبالتالي تبقى هذه الدول جميعها، عرضة للتهديدات الإسرائيلية باستمرار. وحروب السنوات الأخيرة في المنطقة أثبتت وجود قوة ردع بأساليب حرب قديمة جديدة. فقضية سلاح المقاومة داخل إطار الدولة هي “مشكلة” غير قابلة لحل جذري الا إذا تغيرت طبيعة الدولة في المنطقة ككلّ، لا في الدول التي تعيش هذا الوجود الثنائي للدولة والمقاومة (لبنان) فحسب. لم تكن المقاومة المتسبب في ازمة الدولة، اذ ان ازمة الدولة أعمق وأقدم من وجود المقاومة. فالمقاومة نتاج لفشل الدولة وليست سببا في هذا الفشل، وفي سياق كهذا، والى ان تتحول الكيانات القائمة الى دول بالمعنى الحقيقي، ستظل المجتمعات العربية تفرز تنظيمات وجماعات تتحداها.
تنبع أهمية هذه الدراسة من كونها تربط بين المقاومة الإسلامية في لبنان، وما شكّلته من تجربة رائدة في دحر الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية عن طريق الكفاح المسلح ضد قواته وعملائه، والتعايش السلمي مع مؤسسات الدولة اللبنانية، ومشروع بناء الدولة من جهة اخرى. وتتجلى هذه العملية بوضوح أكثر، عندما يتم التدقيق في العلاقات التشابكية ما بين الدولة اللبنانية والمقاومة، حيث أجبر الاحتلال على الانسحاب من جنوب لبنان دون اتفاق تعاقدي، ومن جانب واحد. فلبنان البلد الأصغر مساحة في دول المواجهة مع الكيان، والحلقة الأضعف عسكريا وبناء اجتماعيا وسياسيا بسبب حالة التوتر والتنازع الطائفي الدائمة بين مختلف أطيافه ومكوناته، يسمح لنا بفحص طبيعة العلاقة ما بين المقاومة والدولة، وكيف يمكن لجيش نظامي أن يتعايش مع حركة مقاومة دون حصول أخطاء قاتلة من الطرفين. والبحث في أنماط العلاقة المتبادلة بين الدولة والمقاومة وتأثرها بالمتغيرات الداخلية والخارجية.
تطرح الدراسة العلاقة بين المقاومة والدولة، من خلال المنهج الوصفي التحليلي، ومن خلال مقاربة لبعض التجارب المختلفة (خاصة التجربة اللبنانية) المتعلقة بدور المقاومة في تحرير الأرض والمشاركة في بناء الدولة المستقلة. ان بناء القوة أي المقاومة يرتكز على دعامة أساسية وهي المجتمع (البيئة) الحاضن. من هذا المنطلق، لابد من تسخير القوة لحماية نواة الدولة الموجودة من انهيارات تأخذ القوة الى استعمالات قاتلة، وفي نفس الوقت العمل على بناء الدولة المبادرة. وعليه، تنطلق الدراسة من افتراض رئيسي، وهو أنّ الدولة في لبنان مثلا، هي “دولة” ضعيفة، تعيش كمتطلب أمني لحالة إقليمية او داخلية. لذا فاستمرارية هذه “الدولة” مرتبط بمدى قدرتها على التحكم في المتغيرات والتحولات الداخلية والخارجية، وضبطها لعلاقاتها مع حركات المقاومة التي نشأت بسبب ضعف الدولة. وحتى نستطيع اختبار الفرضية الرئيسية التي تم وضعها، لابدّ لنا من تحليل مجموعة من العوامل التي تساهم في عملية التفاعل داخل أي دولة، وتعدّ هذه العوامل حجر الأساس في فهم طبيعة تشكّل التفاعلات السياسية في الدول التي تتعايش مع هذه الثنائية وعلى رأسها لبنان. ويمكن تقسيمها الى:
-التعددية في السلطات: وهذا يعني بصورة رئيسية، تبيان خطورة تعدد مصادر القوة داخل الدولة. لان الدولة تميز نفسها باحتكارها لاستخدام القوة المشروعة قانونا فوجود المقاومة داخل أي دولة وتحت أي إطار سياسي يخلق نوعا من العلاقة الجدلية بينها وبين النظام السياسي، لأننا نتحدث عن طبيعتين مختلفتين، الأولى حركة تحرر تسعى للتخلص من الاحتلال، بينما الدولة مؤسسة تحتكم الى القوانين، ولها مجموعة من العلاقات والاتفاقيات التي تنظم عملها داخليا وخارجيا. بعكس المقاومة التي تسعى دائما للتحرر من كافة القوانين والالتزامات التعاقدية، بسبب طبيعة الصراع حيث لا يمكن للحسم العسكري المباشر ان يكون له الكلمة الأخيرة في الصراعات، بل تلجأ حركات المقاومة الى الحرب الشعبية وعمليات الكرّ والفرّ، وهذا يجعل المقاومة دائما، أكثر مرونة وحركة، في سعيها للتخلص من نير الاحتلال.
الاستراتيجيات: أي مدى التوافق والاختلاف ما بين الاستراتيجيات المتبعة، وكيف تسهم في اتساع التباين او تقريب وجهات النظر، في الوصول الى اتفاق وتفاهم. فعلى سبيل المثال، لا يوجد اختلاف جوهري بين حزب الله والدولة اللبنانية، على استراتيجية واحدة متفق عليها ما بين كافة أطياف الخريطة السياسية اللبنانية. نلاحظ ان هناك توافق ما على أدوات النضال في لبنان بين الحكومة والمقاومة، فحزب الله يعترف بشرعية وجود الدولة اللبنانية وقرارات الشرعية الدولية، والحدود المعترف بها دوليا.
مصادر القرار: وهي تنمّ عن تعدد مصادر القرار، وتحديد الأهداف والرؤى في التوصل الى الحد الأدنى من التوافق وكيف يمكن التوصل الي رؤية موحدة حول كافة القضايا المختلفة؟ وكيف ينظر النظام السياسي الى الشراكة السياسية المبنية على تقبل الاخر؟
من هذا المنطلق تطرح الإشكاليات التالية حول مفهوم المقاومة، ومشروعيتها وخصائصها القانونية؟ التحديات التي تواجهها في مواجهة الشبهات والخلط في المفاهيم من جهة، وفي مراكمة القوة للمساهمة في بناء الدولة المستقلة، ذات السيادة الوطنية والقرار الثابت المستقل؟ هل يجوز لحركة المقاومة أن تدخل السلطة وهي تحتفظ بسلاحها وقراراتها العسكرية بشكل مستقل؟ أي دور تحتفظ به المقاومة في ظلّ ضعف الدولة وعدم قدرتها على مواجهة التحديات الأمنية والعسكرية؟
مصادر الدراسة:
– المجذوب، محمد، الاحتلال الأجنبي وشرعية المقاومة، مجلة دراسات دولية، شتاء 1993
– حسن فضل الله، حزب الله والدولة في لبنان، الرؤية والمسار 2015.
-الاتفاقيات الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة المتعلقة بمشروعية المقاومة المسلحة.
-حيّان جابر، في العلاقة بين المقاومة والثورة، العربي الجديد، 4 كانون الاول 2019.
-طلال عتريسي، حزب الله هل تفكّكه التسوية، 4 كانون الثاني 2000. www.islam.net
-اللجنة المعنية بحقوق الإنسان/الدورة الحادية والعشرون (1984) /التعليق العام رقم 12/المادة 1.
-وليد القططي، الشقاقي وفلسطين بين فقهي الانتظار والثورة، موقع الميادين نت، 26تشرين الاول 2022.
-Weber, Max. Economy and society. Essays in interpretive sociology. New York: bedminister. 1968.
-Jocelyn A. Hollander & Rachel L. Einwohner. “Conceptualizing Resistance,” Sociological Forum, vol. 19, no. 4, (2004).
-Michael F. Brown, “On Resisting Resistance,” American Anthropologist, vol. 98, no. 4 (December 1996): 729-730.
-James C. Scott, “Everyday Forms of Resistance,” The Copenhagen Journal of Asian Studies 4, no. 1 (1989): 34.
-Mélanie Dubuy ,Le droit de résistance à l’oppression en droit international public : le cas de la résistance à un régime tyrannies, Dans Civitas Europa 2014/1 (N° 32), pages 139 à 163.
-Art. 1 de la Résolution de l’Institut de Droit International, « Reconnaissance des nouveaux États et des nouveaux gouvernements », 1936, texte accessible à l’adresse internet suivante: https://www.idi-iil.org/.
-DAVID, Eric, VAN ASSCHE, Cédric, Code de droit international public, 4ème éd., Bruxelles, 2008
-Randall G. Bowdish, Military Strategy: Theory and Concepts, University of Nebrask, 2013.