يحصل أن يجنّد البشر مفاهيمَ وقضايا، فليس التجنيدُ محصورًا بالأجساد البشرية. يجنّد الغرب الذي له في العصور المظلمة الهمجية أكثر مما له في عصور الأنوار، قضايا مثل “السلام”، “حقوق الإنسان”، “النسوية”، وغيرها مما لا يوضع له قواعد ولا معايير واضحة، ولا يحكمها ميزان. ولن يبدو هذا غريبًا إذا ما تأملنا تنظيراتهم الفلسفية لنظامهم العالمي الجديد، إنهم محتاجون لمعايير فضفاضة لإدارة “العماه” أو ما يسمونه “الفوضى الخلاقة”. “نعيش في عالم قاسٍ وبائس ومتوحّش” ردّدها بومبيو في مذكراته، وأَسمَع صداها في كل صفحات الكتاب. ولو أنّه أراد أن يضع عنوانًا آخر لهذا الكتاب، لكانت هذه الأوصاف الثلاثة.
فيما يتغنى الغرب والمجتمع الدولي بإنسانيته ومسيرته الحضارية التي يتفوق بها على الأمم الأخرى، وذلك على شكل قوانين ومنظمات وقرارات وائتلافات تصل حدّ التعسكر، تتجزأ المبادئ حدّ التلاشي فيما هو من أقذر المعايير المزدوجة وأكثرها همجية عبر التاريخ. بعد الزلزال المدمّر الذي أصاب تركيا وسوريا، يمكن أن ترى على الخريطة جسور المساعدات الجوية التي تحطّ في تركيا، أما فوق سوريا المنكوبة أصلًا بفعل الحرب الكونية عليها، فلا يحلّق سوى شبح قانون قيصر.
الإنفاق في سوريا لإشعال الحرب وليس للمساعدة الإنسانية
2000 مليار دولار هو الرقم الذي طلبه رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان لإسقاط نظام الحكم في دمشق. قطر موّلت الاضطرابات في سوريا خلال أول عامين من الأحداث بـ 4 مليار دولار بحسب صحيفة فايننشال تايمز. فيما أنفق “البنتاغون” الأمريكي على تنفيذ برنامج تدريب وتسليح مقاتلي المعارضة السورية خلال عامي 2014 و2015 نحو 384 مليون دولار بحسب صحيفة USA Today.
عام 2016، كشف البنتاغون عن برنامج تدريبي جديد لمقاتلي العشائر السورية قدّرت تكاليفه الأولية بحوالي 400 مليون دولار. في الأعوام اللاحقة تم تخصيص أموال من ميزانية الدفاع الأمريكية لدعم قوات سوريا الديموقراطية “قسد” والفصائل التابعة لواشنطن في سوريا، تصل سنوياً إلى أكثر من 500 مليون دولار. وهي مستمرة حتى اليوم، أي وصل مجموعها وسطياً إلى نحو 3 مليار دولار.
بريطانيا هي الأخرى أنفقت نحو 477 مليون دولار منذ عام 2015 حتى 2021 لدعم مقاتلي المعارضة في سوريا، وفق تقرير استقصائي بريطاني. وموقع “جسور” المعارض كشف عن استلام الائتلاف المعارض منذ تأسيسه وحتى عام 2017 مبالغ مالية ضخمة، تُقدّر بحوالي (200) مليون دولار. ومؤتمرات المانحين جمعت منذ 2013 حتى اليوم أكثر من 60 مليار دولار تحت عنوان “دعم الشعب السوري”.
كل الأرقام السابقة هي من الأرقام المعلنة، ومحددة ببعض سنوات الحرب، وما خفي أعظم. فعلى سبيل المثال لم نستطع الوصول إلى ما أنفقته السعودية لتسليح المعارضة في سوريا، وخاصة برنامج “تيمبر سيكامور” السري بين الاستخبارات الأمريكية والسعودية. وماذا عن تمويل غرف العمليات المشتركة – “الموك” في الأردن و”الموم” في تركيا، ورواتب ما يقارب 50 فصيلاً عسكريًاً في جنوب وشمال سوريا. يبدو الرقم الحقيقي لتغذية الصراع في سوريا هائل، ويصل لعشرات مليارات الدولارات، هذه هي إنسانية النظام العالمي اليوم.
السباق السعودي والقطري لتدمير سوريا فيما يخيّم الصمت فوق ضحايا الزلزال
برزت قطر في طليعة دعم الخليج للمعارضة السورية مستفيدة من ريادتها لجامعة الدول العربية. بحلول صيف 2013، كانت الرياض تتحرك لانتزاع الملف السوري من يد الدوحة، بعد التحول في السياسة السعودية نحو مزيد من التوافق مع الولايات المتحدة. قابل ذلك تدفق الأموال غير الرسمية غالبًا من رجال الأعمال في القطاع الخاص. واليوم تبرز قطر كأول الرافدين للإغاثة في تركيا، ولا هدير للطائرات القطرية فوق سوريا حتى كتابة هذا المقال. فيما يجرى الحديث عن مساعدات خليجية وعربية تبدو خجولة لحدّ الآن ومنها ما لا يتعدّى التصريحات.
مكيال السياسة الخارجية: الكيل بمكيالين
الواقع أننا في عالم يمتلئ سطحه بمصطلحات الحداثة والمواطنة وحقوق الإنسان، أما في العمق، فلا ترى إلا القبلية والعنصرية وظلام همجية القرون الوسطى وما قبل الأديان. وفي كوكب القرية الواحدة، ترى كيل القوم بمكيالين، ووحدة قياسهم هي السياسة الخارجية التي يمكن أن تكيل بقتل شعب وإفقاره، ولا تكيل أبدًا بإغاثته. وكيل آخر هو الإغاثة الانتقائية بين شعب وآخر. خاصة أن المبادئ تتجزأ في وحدة القياس ذا الطبيعة المتغيرة والغامضة.
يُحكى أنّ السياسة الخارجية النسوية تمّ ابتكارها لجعل هذه القرية أكثر سلامًا وعدلًا، إلا أنها منتج منفصمٌ آخر لعدالة النظام العالمي الجديد.
الكاتب: زينب عقيل