منذ بضعة أيام كان اجتماع لوزراء خارجية كل من سوريا وروسيا وإيران وتركيا في موسكو، لصالح ما تسميه روسيا “إعادة تطبيع العلاقات ما بين تركيا وسوريا”. وكان يتوقع البعض أن يتم ذلك قبل الانتخابات التركية يوم الاحد في 14 أيار، وكان هناك تسارعاً من قبل كل من إيران وروسيا من أجل ابرام الإتفاق مع سوريا ما قبل الإنتخابات، لأنه “يلي بتعرفوا أحسن من يلي بتتعرف عليه” كما يقول المثل الشعبي، وبسبب الخطر الذي يمثله المرشحون الآخرون المرتبطون عضوياً بالولايات المتحدة الأميركية. ولكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لم يصل مع السوريين لإتفاق ضمن الشروط التي وضعها الرئيس السوري بشار الأسد، التي تختصر بإنتهاء الإحتلال التركي والتوقف عن دعم المجموعات الإرهابية في شمال سوريا. وأردوغان حقيقة لا يستطيع فعل ذلك في المرحلة الحالية.
بعد دعوة مستشار أردوغان، ياسين أقطاي، في 9 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، أثناء حديثه عن إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، إلى “[وجوب] وضع حلب تحت السيطرة التركية”، بعد أيام من إعلان المتحدث باسم الحزب الحاكم “حزب العدالة والتنمية”، عمر جليك، عن لقاء منتظر ما بين أردوغان والأسد. دعوة أقطاي، التي كانت مثيرة للجدل، كشفت عن نوايا تركيا الحقيقية، خاصة وأنها أتبعت بتصريح بعد أشهر لوزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، في 25 نيسان/ ابريل في مقابلة مع تي آر تي خبر [الإخبارية التركية]، بأن القوات التركية لن تنسحب في الوقت الحالي من شمال العراق وسوريا.
جاءت تصريحات أوغلو عشية اجتماع وزراء دفاع ورؤوساء استخبارات كل من سوريا وروسيا وإيران في موسكو. توقيت التصريحات ليس بريئاً. فأوغلو يشترط اللقاء ما بين أردوغان والأسد دون شروط مسبقة، والتي كانت وضعتها سوريا، والتي أكد عليها الرئيس السوري خلال زيارته لموسكو في الشهر الماضي. وعرض الوزير التركي قلق ومخاوف امنية من الجماعات الإرهابية التي تسيطر في شمال سوريا والعراق، ويقصد بها دون شك التنظيمات الكردية. وأضاف اوغلو أن تركيا لا تطمع بإقتطاع أجزاء من سوريا ولكن لا يمكن الإنسحاب إلا “حين يستتب الأمن ويعود الإستقرار الكامل إلى تلك المناطق”.
وفي محاولة لفهم التخوف التركي، وفي حقيقة الأمر لا يعود إلى عدم إيمانه بقدرة الدولة السورية على إعادة السيطرة الأمنية والإستقرار في المناطق التي سيعود ليبسط الجيش العربي السوري سيطرته عليها، والذي يمكن أن يقرأ اليوم بعد إعادة الكونغرس التمديد للإحتلال الأميركي لشمال شرق الجزيرة السورية وفي منطقة التنف في البادية السورية. ويأتي التخوف من الدعم الأميركي للمجموعات الكردية في سوريا، قسد بالتحديد، وللأكراد في كردستان العراق.
ولنعد قليلاً إلى الوراء لنفهم ماذا حدث! في 16 أيار / مايو من العام الماضي، زارت نائبة وزيرة الخارجية الأميركية، ويندي شيرمان ذات الأصول اليهودية، تركيا. وذلك بعد شهرين من زيارة رئيس الكيان العبري إسحاق هرتسوغ لتركيا. وأكدت شيرمان مع نائب وزير الخارجية التركي، سادات أونال، العلاقة الإستراتيجية بين البلدين وناقشا مجالات التعاون المشترك. وكان هناك بالتأكيد نقاش للوضع الأوكراني، ولكن الأهم كان هناك نقاش للحاجة للتضامن بين حلفاء وشركاء شمال الأطلسي، وبالتأكيد نقاشات أخرى منها ما اتضحت نتائجه بعد أشهر وهو عودة فتح السفارة العبرية في 19 أيلول/ سبتمبر في العام نفسه، وعودة العلاقات الطبيعية ما بين الكيان الصهيوني وتركيا.
خلال زيارته هزّ هرتسوغ عصا جزرة الإقتصاد أمام أردوغان، وأهم ما يتعلق بذلك الصناعات الحربية الإسرائيلية ومنها مصانع الطائرات المسيرة والدبابات الإسرائيلية في تركيا. إضافة إلى ذلك التبادل الإقتصادي لباقي الصناعات الأخرى والسياحة. إذن لأردوغان، أو تركيا، مصالح اقتصادية مع كل من الكيان العبري المؤقت وحتى مع الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك هناك دور كبير للكيان كما الولايات المتحدة في دعم الفصائل الكردية الإرهابية المسلحة، والتي تشكل قلقاً كبيراً بالنسبة لتركيا. وحتى اليوم كان الأميركيون ما يزالون يسمحون للأتراك بقصف مواقع كردية مسلحة في شمال العراق وسوريا، مع العلم أن الأتراك قاموا باستهداف مواقع للحشد الشعبي والجيش السوري، “بالخطأ، بالتاكيد”. أي أن المنفعة ما تزال متبادلة والمغريات الاقتصادية الكبرى التي قدمتها كل من روسيا وإيران كبيرة مع تركيا وحجم التبادل التجاري مع كل منهما وصل إلى مليارات الدولارات. ولكن تركيا تعتبر أن الحاجة الإيرانية والروسية لها هي أكبر كمصدر لدخول النقد الأجنبي وتحديداً الدولار.
إذن أردوغان حتى اليوم لا يريد أن يضع بيضه في سلة روسيا وإيران وحدهما، وما يزال راغباً باللعب على التناقضات الدولية على الرغم من التراجع الواضح للسيطرة الأميركية في العالم. وما تزال أميركا حتى اليوم غير قادرة على وضع شروط لإتفاق بإخراج العلاقة التاريخية ما بين سوريا وإيران من الحسابات. واليوم وبعد زيارة الرئيس الإيراني السيد ابراهيم رئيسي إلى سوريا تعمقت العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية ما بين البلدين مما وضع الإدارة الأميركية في وضع أصعب مما هو عليه، فلا إيران توقفت عن تطوير برنامجها النووي السلمي والبرنامج الدفاعي الصاروخي، ولا سوريا توقفت عن دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، وبالتالي وبرأي الأميركي قد اتسعت دائرة الخطر على الكيان الصهيوني.
وبالتالي، إذا ما قام أردوغان بسحب جيشه من الشمال السوري، وهو من طرح أساساً شعار، “شرق الفرات أولاً”، فهو يظن أن ذلك سيضعه في مواجهة مع الفصائل الكردية إذا ما بقي الأميركي أو طال وجوده في شمال شرق سوريا. كما أن حجم التبادل التجاري مع الكيان العبري والمحمي أميركيا، يجب تعويضه. مع العلم كانت هناك زيارات متبادلة ما بين تركيا والسعودية والتي تضمنت اتفاقات اقتصادية هي لمصلحة تركيا أولاً لا يمكن تمريرها دون موافقة سورية والتي لن يحصل عليها دون المصالحة مع الدولة السورية. لقد علق المسكين ما بين معادلة الدجاجة أولاً أم البيضة، وهو متذبذب لا يستطيع حسم خياراته.