سماهر الخطيب
تأسست المقاومة الإسلامية عام 1982 وبدأت عملياتها العسكرية ضد الغزو الإسرائيلي من كل حدبٍ وصوب، في هذه الأثناء لم يحسم الأميركي أن تفجير السفارة الأميركية بتاريخ 13 نيسان 1983 يقف خلفه حزب الله، إنما حُسم الأمر وأكده، التفجير الذي حدث في عام 1983 لمقر مشاة البحرية الأميركية (المارينز) في بيروت، واتهمت فيه واشنطن القائد الجهادي في المقاومة الشهيد عماد مغنية، وفي 23 أكتوبر من العام نفسه، انفجرت شاحنة مفخخة في المجمع السكني حيث كان يقيم ضباط وجنود أميركيون وفرنسيون من القوة المتعددة الجنسيات في لبنان في مطار بيروت الدولي، كذلك اتهم حزب الله بالوقوف ورائه.. أربعون عاماً ونيف على تأسيس المقاومة، وثلاثةٌ وعشرون عاماً مضت منذ أن قامت المقاومة اللبنانية بدعم من سورية وإيران، بتحرير الجنوب اللبناني ودحر الاحتلال الصهيوني عام 2000، راكمت المقاومة خلال هذه الأعوام الكثير من القوة، ورسمت العديد من قواعد الاشتباك، ورسّخت المزيد من الخطوط الحمراء التي بات من الصعب تجاوزها، وباتت قادرة على خلق الحدث بمواكبة الإعلام المقاوم كما بات الزمان الذي تختاره المقاومة زماناً مدروساً، ولمَ لا ونحن في زمن المقاومة والتاريخ يشهد الكثير من محطات المقاومة التي انكسرت فيها هيبة الكيان المؤقت.
كما أن تضحيات أبطال المقاومة بكل فروعها ومكوّناتها كانت ولا تزال رادعاً وجداراً منيعاً أمام غطرسة العدو، فباتت قلعة المقاومة المصونة بدماء شهدائها وتضحياتهم منيعة بينما بات بيت العدو أوهن من بيوت العنكبوت.
وبعدما حققت المقاومة اللبنانية هدفها بدحر الاحتلال الإسرائيلي، وبعدما اضطر هذا الأخير إلى ترسيم الحدود اللبنانية الفلسطينية وتطبيق القرار 425، بات من الضروري مباشرة نقاش هادىء وموضوعي حول هذه المقاومة والوقوف على مراحل التي راكمت خلالها فائض القوة لسبب علمي وفكري أقلّه، أو لسبب عملي يرتبط بقابليّة تصدير هذه التجربة..
مميزات المقاومة العسكرية والإعلامية
لقد تميّزت المقاومة العسكرية عموماً بالسرية التي أمّنت لها الفاعلية، وبالصدقيّة والجدية في بياناتها، وبالبيئة الحاضنة التي ترجمت بالرضى الشعبي والتكامل والتناغم بين المقاومين والسكان المحليين، وبمعرفة نقطة ضعف العدو: الخسائر البشرية.
كما أنها مقاومة فتيّة معظم رجالها من الشباب الذين نذروا أنفسهم للجهاد والشهادة، فلا يتقاضون رواتب ولا يفرضون “خوّات” ولا يعتدون على أملاك الغير ولا يشهرون سلاحاً في وجه مواطن ولا يطلقون رصاصاً في حي سكني، حزناً أو ابتهاجاً، ولا يمشون فرحاً بأزيائهم المرقطة وأسلحتهم الظاهرة، همّهم الوحيد وشغلهم الشاغل التفكير في كيفية إعداد الخطط لمباغتة قوات الاحتلال وإنزال الخسائر بها، ثم التواري لتنظيم هجمات جديدة أشد وأقسى.
فيما رافق المقاومة العسكرية إعلام مقاوم ترجم النصر الميداني بتغطية إعلامية رافقت تلك الانتصارات لوعيها وإدراكها بأهمية الحرب الناعمة التي خاضها العدو في محاولة فاشلة منه لإغراء العقول وكسب القلوب فكان الإعلام المقاوم بالمرصاد ونقل بفاعلية وصدقية وجدية تلك الانتصارات فكشف الحقائق، وفند الأكاذيب، وساهم في توسيع البيئة الحاضنة للمقاومة عبر ما قام به من نشر لثقافة المقاومة ومبادئها وعقيدتها الراسخة في الوجدان المقاوم.
مراحل تطور المقاومة وفرض قواعد الاشتباك
وبالتكامل ما بين المقاومة العسكرية والإعلامية نجحت هذه المقاومة في التحوّل لظاهرة راسخة وفعل يومي ثابت ومتعدد، واعترف بها العدو قبل الصديق، فكان لا بدّ لها من أن تحقق هدفها التحريري الأوّل، لتتوالى الأهداف وتتراكم القوة لتشكل قواعد اشتباك رسمت عصر المقاومة الذهبي، ومنذ انطلاقتها عام 1982 إلى انتصارها سنة 2000 وصولاً إلى ما وصلت إليه اليوم وُجِدَت المقاومة اللبنانية في ظروف تتوافر فيها الشرعية والملاذ والدعم الشعبي وكذلك العقيدة والتي هي عوامل ملائمة ضرورية لنجاح كل حرب تحرير وطنية.
وإذا ما أردنا الوقوف على أحد أهم مراحل قواعد الاشتباك فقد ظهرت بتأكيد أمين عام حزب الله، السيّد حسن نصر الله، في خطابه عام 2019، متوجهاً لـ”الإسرائيليين” بالقول: “احفظوا تاريخ 1 أيلول 2019 لأنه بداية مرحلة جديدة من الوضع عند الحدود لحماية لبنان وليس هناك خطوط حمراء”.
وهذه المرحلة تحديداً أسقطت قواعد الاشتباك التي فرضها الكيان المؤقت منذ العام 1996 ولم تسقط تلك القواعد فقط بل وأثّرت على الكيان برمته، وبات آيلاً للسقوط بعد تاريخ طويل من في الصراع الممتد بين المقاومة والكيان المؤقت، حاول الأخير فرض قواعد محددة وكان ثمة ثلاثة مفاصل رئيسة في هذه القواعد، وإن لم تحترمها إسرائيل في العام 1996 التي كانت نتاج لعملية “تصفية الحساب”، التي أنتجت أيضاً ” تفاهم نيسان”، ورعته ضمنياً كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وسورية، التفاهم الذي أجبر إسرائيل على عدم التعرض للمدنيين في الصراع القائم. والامر الثاني كانت القواعد التي أرسيت مع انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000 وبموجبه احتفظت المقاومة بحقها بتحرير باقي المناطق التي تعتبر محتلة وهي تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، وثالثأً هي قواعد الاشتباك التي أرساها القرار 1701 الذي أتى كنتيجة لعدوان إسرائيل على لبنان في العام 2006، وقد أرسى معادلات وتفاهمات ضمنية.
أما اليوم، وبعد إعلان المقاومة سقوط هذه القواعد جميعاً، ثمة وقائع ومتغيرات وتداعيات كثيرة بدأت تأثيراتها المباشرة على المنطقة برمتها، والتي بدأت مع الإعلان عن أن الجبهة مع إسرائيل ستكون مفتوحة وممتدة على طول الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة (وحدة الساحات)، ما يعني إدخال جبهة الجولان في دائرة المقاومة بعد حالة من الستاتيكيو الممتد منذ العام 1974، وهو الأمر الذي أقلق إسرائيل وأغرقها في الخوف الذي ترجمته في عملية القنيطرة حينها كرسالة واضحة الدلالات.
وكسر هذه القواعد وسقوطها، يعني كسر توازن الردع والرعب أيضاً فتجاوزت المقاومة في هذه المرحلة ما اصطنعوه من حدود من دمشق إلى بيروت فبغداد والقدس وكل عواصم قرار المقاومة، وزرعت الرعب في نفوس أعدائها. لتصبح مقاومة نفسية ومعنوية وفكرية وإعلامية ليس فقط مقاومة بالسلاح، ولم تحدّد مرحلة جديدة في قواعد الاشتباك فقط، بل قلبت المعادلة أو بالأحرى أعادت المعادلة لشكلها ومضمونها الطبيعي في توازن الردع.
ورغم كل إجراءات كيان الاحتلال وأهدافه الوهمية، لكن فعل المقاومة من تحرير الجنوب 2000 إلى نصر تموز 2006 وصولاً إلى 2022 واستحصال الثروات البحرية اللبنانية تأكيد على أنها خط أحمر لا يمكن للكيان تجاوزه وإرغامه على الاعتراف بها، وكما اجتاز السيد حسن نصرالله الذي توجته الانتصارات والتضحيات رمزاً لها، المرحلة الأولى من صعود المقاومة بصفتها قوة التحرير والردع في مواجهة خطر كيان الاحتلال، فإنه اجتاز المرحلة الثانية مع سفن كسر الحصار التي جلبت عبرها المقاومة المازوت الإيراني عبر سورية، ومن “أنظروا إليها تحترق” إلى “أنظروا إليها تعبر البحر” لم تكن ببعيدة عن “سيف القدس” و”وحدة الساحات” و”ثأر الأحرار” ولا ننسى “نفق الحرية” كأكبر دليل على أن الحرية قاب شوكة أو مسمار، لتتكرّس المقاومة وفق مفهوم ترجمه السيد نصر الله بتهديده “الإسرائيليين” بالقول: “إذا اعتديتم فإنّ كل جنودكم ومستعمراتكم في عمق العمق ستكون ضمن أهداف ردّنا”، وقد انتقل الرّد وبات في وضح النهار وفي العمق، بل كلل بـ”وحدة الجبهات” وهذه هي ثقافة المقاومة التي لا تكلّ ولا تهدأ حتى إعادة كل الأرض.
لاءات المقاومة
انتهى زمن السماح وغض الطرف وولّى إلى غير رجعة الذي يعتدي فيه العدو دون رد او عقاب، والزمان الآن هو زمان المقاومة ومكانها، وأثبتت أن الكلمة الأخيرة هي للمقاومة، وباتت اللاءات الجديدة (لا لقواعد اشتباك 1996 تفاهم نيسان) ولا لقواعد العام 2000، ولا لقواعد 1701، أكثر فاعلية مع اقترانها بـ “اللا” الأقوى التي فرضت بمناورة المقاومة، “لا لوجود الكيان برمته” وبمناورة حملت عنوان “سنعبر” تأكيد على أنّ لا للخنوع ولا للاستسلام، ولا لاتفاقات الانهزام، وكان لزمان هذه المناورة توقيت بات من صنع المقاومة. ورغم أنها احتفالية بعيد المقاومة والتحرير فإنّ هذا العيد أيضاً تزامن مع انتصار محور المقاومة ككل في سورية وإسقاط المشروع الأميركي في تقسيمها وعودة العرب “خاضعين” نحو قلب عروبتهم سورية المنتصرة، وكذلك الاتفاق السعودي – الإيراني الذي أفشل السيناريوات الأميركية والصهيونية في إقامة ناتو عربي إسرائيلي وسقطت معه أوهام الكيان المؤقت، فكان ضربة في العمق الصهيوني وتراجع وإيقاف لعجلة “التطبيع” مع العدو الذي أكد إعلان جدة على أنه العدو الأوحد (مع التحفظ على “تطبيع” بعض الدول العربية مع هذا الكيان المؤقت) ولنقل بأنه تطبيع مؤقت مع كيانٍ مؤقت.
مناورة المقاومة ورسائلها
وفي مناورة حزب الله بمناسبة عيد التحرير والمقاومة وعيٌ وإدراكٌ وبصيرة كما العادة إنما بأفعال شديدة اللهجة تؤكد بأنّ حسابات المقاومة صحيحة ولديها ثوابت وأخلاق وقيم، واحتفاء بالشهداء والتأكيد على استمرارية نهجهم فكانت بندقية عماد الشهداء الشهيد القائد عماد مغنية تأكيد للكيان المؤقت بألا يخطئ في حساباته وأن يتأدّب ويأخذ العبر من حروبه وحروب المقاومة، فهذا الهيكل العسكري الذي كان في المناورة هو جزء من 100 ألف مقاتل.
وكانت المناورة تأكيد للداخل اللبناني بأنّ هؤلاء المقاتلين لم يتم تجهيزهم لحرب أهلية بل للدفاع عن لبنان في وجه الأعداء، وحينما قال رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله”، السيد هاشم صفي الدين: بأنّ “ليس للحزب أعداء في الداخل” إنما هو تأكيد على أنّ عدونا هو “إسرائيل”، راسماً البوصلة الرئيسية للصراع بأنّ مقاومة اليوم هي قوة ممتدّة ومحور كامل سيبقى يتطور انطلاقاً من سورية وإيران إلى لبنان ونحو غزة والضفة والداخل المحتل، وضعت المقاومة بذلك قاعدة جديدة في الاشتباك إلى قاعدة “وإن اعتديتم!” ورسمت خطاً أحمراً تتحكم به المقاومة ومحورها المقدس، ليبدأ عهد جديد وخطوط جديدة بعيداً عن تلك الخطوط التي رسمتها الأمم المتحدة ظلماً وعدواناً تحت شرعة أميركية صهيونية، في حين أنّ العدو الذي لا ينفك يعتدي ويخترق سماء لبنان وينفذ غاراته في الشام وغزة سيحسب الآن ألف حساب لأي تصرّف بعدما انكسرت هيبته، أمام المقاومة التي وعدت بردّ الصاع صاعين، وأكثر، في قلب العمق الصهيوني.
باتت القاعدة إن اعتديتم فسنردّ بحسب الاعتداء الطائرة بالطائرة والصاروخ بالصاروخ والبادئ أظلم.. الأهداف توحدت وباتت هدفاً واحداً هو قتال “إسرائيل”.. سماؤنا لنا حرام على غيرنا، كما ترابنا المقدس المروي بدماء شهدائنا. فلم تعد السماء مفتوحة لطيران العدو، ولم تعد الأرض التي رويت بالدماء، مجالاً للانتهاك..
وكما عادت الأرض لأهلها الجديرين بحمايتها بسلاحهم ومعه دمائهم، ستعود كل الأرض فقد أسقطت أسطورة الجيش الذي لا يُهزم وإلى الأبد، أسقطتها دماء الشهداء. وترسخت باليقين مقولة وفعل المقاومة التي لا تقهر، بصمود الشعب المقاوم الذي بات صلباً عتياً عصياً عن الانكسار كما حجارة أرضهم وقلاعها الشاهدة على أن من يتم إخراجه من أرضه بالقوة لن يستطيع العودة إلا بالقوة.. هذه القوة الآتية من الإيمان بالحق وبالأرض لطالما كانت الأرض هي الهوية. وهذا هو الفرق، نحن أصحاب هوية وأصحاب حق في حين سيبقى الصهاينة بلا هوية، فهم مغتصبون للحق بلا أرض، وأرضنا تبقى لنا مهما طال الزمن سنعود وندخلها آمنين..
إعلام المقاومة
أما مواكبة الإعلام المقاوم للميدان فهو تأكيد على أنه سيبقى في المواجهة وسيبقى متمسكاً بحقه ومقاومته حتى تحرير الأرض، وبأنه لا يتراجع ولا يتخاذل وسيبقى صامداً موحداً مرفوع الرأس لا يستحي من إظهار الحق ولا يهاب الباطل؛ هكذا كان وهكذا سيبقى، وحدة وطنية، جهوزية عالية، دعم للمقاومة، سيسير على طريق التحرير ولن يتردد حتى الرمق الأخير لتكون 25 أيار عبرة وعظة وحكمة يجب ألّا تغرب عن بالنا أبداً.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع