يختلف المؤرخون حول تحديد اللحظة التاريخية التي بدأ فيها الوجود اليهودي في فرنسا. ولكن تشير الموسوعة اليهودية إلى ضرورة التعامل بحذر مع كل الآراء التي تتحدث عن هذا الوجود قبيل القرن الخامس الميلادي، وتحديداً عام 465 منه، حيث شهد هذا العام عسفاً كنسياً واضحاً ضد اليهود، وهو عسف كانت له مظاهره التي استمرت زهاء ربع قرن.
ولا بد من الإشارة إلى واقعتين أساسيتين، تمثل كل منهما نقطة تحول جوهرية في مسار الوجود اليهودي في فرنسا؛ الأولى: هي حصول اليهود الفرنسيين على مختلف حقوقهم الدينية المدنية، وذلك بعد انقضاء عامين كاملين على قيام الثورة الفرنسية في عام 1789، حيث كانت موجة من “معاداة السامية” قد اجتاحت فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أما الواقعة الثانية: فإنها تتمثل في التفاف يهود فرنسا حول الصهيونية، تحت تأثير واقعة الضابط درايفوس.
الجدير بالذكر، أن الفكرة الصهيونية، وقد تلقت دفعة أقوى من خلال الاحتلال النازي لفرنسا عام 1940، خاصة وقد تصدى اليهود للنازي، أو تولوا تمويلها والدعاية لأنشطتها، وبرزت في غمار ذلك أسماء بعض منظماتهم، مثل: “اللجنة المركزية لمنظمات المعونة اليهودية” و”الصندوق القومي اليهودي” و”مركز التوثيق والدعاية اليهودية”…الخ، وفي نفس الإطار، بدا مفهوماً أن يتعاطف الفرنسيون مع ممارسة اليهود للحل الصهيوني كجزء من تخففهم من الشعور بالذنب، كما بدا مفهوماً أن يوفروا لهم أكثر من فرصة لم يضيعها اليهود لإثبات وجودهم.
من ناحية النفوذ والتأثير في المجال السياسي قد يكون من الصعب، أن يقدم اليهود للرئاسة الفرنسية أحد أبنائهم، لكن لا يمكن أن ترضى إلا برئيس جمهورية يتفهم مصالحها كما كان الحال مع جورج بومبيدو وفرنسوا ميتران، ولكن قدّم اليهود بعض رؤساء الحكومات، مثل ليون بلوم وبيار مانديس وميشال دوبريه، وكذلك الكثير من الوزراء أمثال إسحاق أدولف كريمييه في الجمهورية الأولى، وجول موخ ودانيال ماير في الجمهورية الرابعة، وموريس شومان وليون هامون في الجمهورية الخامسة.
يؤثر اليهود الفرنسيون في عملية صنع القرار الخارجي، وهم في تأثيرهم يتوخون مصلحة الكيان المؤقت الذي تجمعهم معه أواصر الدين المشترك.
أما المنظمات اليهودية والصهيونية في فرنسا، فيمكن تمييز أنواع أساسية منها، وهي القومية والصهيونية والدينية والاجتماعية والمضادة والمعنية بدعم الصداقة الفرنسية الإسرائيلية.
التنظيمات القومية: وهي تمارس مجموعة من الأنشطة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية أيضاً، وهي تشمل كلاً من المجلس الممثل ليهود فرنسا، والمعبد الرئيسي الإسرائيلي لكل من فرنسا والجزائر، والنداء اليهودي الموحد لفرنسا والصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد، والتحالف الإسرائيلي العالمي، واتحاد الجمعيات اليهودية لفرنسا واتحاد الإسرائيليين السفارديم لفرنسا، والفرع الفرنسي للمؤتمر اليهودي العالمي.
التنظيمات الصهيونية: وهي التي تقوم بالترويج للفكر الصهيوني داخل المجتمع الصهيوني داخل المجتمع الفرنسي، وتسعى لحشد اليهود من أجل دعم الكيان المؤقت على مختلف الأصعدة والمستويات، وتتمثل أهم هذه التنظيمات في كل من الحركة الصهيونية، والوكالة اليهودية من أجل “إسرائيل”، والأصدقاء الفرنسيين لجماعة بار – إيلان، والجمعية الفرنسية لأصدقاء جامعة تل أبيب، وجمعية قدامى الطلبة ودارسي المدارس العليا للصداقة مع إسرائيل، والجمعية الفرنسية لأصدقاء الإلياه من الشباب، واللجنة المركزية للإلياه، والحركة القومية للإلياه، وبريث أم فرنسا، وهيشالوت فرنسا، وجمعية المعونة للمكفوفين الإسرائيليين، وكيرين كيرمت الإسرائيلية بفرنسا، وشنات شيروت، ومركز أصدقاء الكيبوتزات، ولجنة العمل الصهيوني الاشتراكي، واللجنة الفرنسية لمعهد وايزمان، وإتحاد الأطباء البشريين وأطباء الاسنان والصيادلة من أصدقاء الكيان المؤقت، والمنظمة الدولية للنساء الصهيونيات وأخيراً الفرع الفرنسي لمنظمة النساء الرائدات.
وأخيراً، لا بد من الإشارة، أن لدى يهود فرنسا تأثير واضح في الحياة الاقتصادية في هذا البلد في أربع قطاعات، وهي: البنوك والطاقة والبترول والصناعات الحربية وقطاع التجارة، ولعل الأشهر بين اليهود في قطاع البنوك هم عائلة روتشيلد التي كانت تسيطر على أثنين من أكبر المصارف الفرنسية هما “الشركة الفرنسية” و”بنك إخوان روتشيلد”، كما لعب ” فينالي” وهو يهودي من أصل مجري دوراً بارزاً في صناعة البترول في كل من فرنسا ورومانيا.
كما يملك اليهود في فرنسا عدداً كبيراً من الصحف اليومية والاسبوعية ونصف الشهرية، ولكنها ضعيفة التأثير كونها باللغة العبرية. لكن التأثر الأهم يأتي من التغلغل اليهودي في الصحافة الفرنسية ذاتها. عبر القيام بشراء صحفاً كاملة من الصحف الفرنسية الرئيسية، أو الاحتفاظ بعلاقات شخصية مع أبرز كتابها أو وجوهها، فمثلاً اقترنت أسماء روتشيلد ودرايفوس وغيرهما بصحف مثل “الفيغارو”.
لا شك أن اليهود يتمتعون بقدر كبير من التأثير والفاعلية، وهو أمر لا يستمد من نسبتهم العددية إلى إجمالي الفرنسيين. وقد تغلغلوا في مختلف مناحي ومؤسسات المجتمع الفرنسي بشكل يمكن تشبيهه بالأخطبوط.
الكاتب: نسيب شمس