لم يُفاجئ الموقف الصيني “الحيادي” من الحرب الروسية- الأوكرانية المراقبين، على الرغم من أن روسيا تعدّ الصين حليفها الأول والأقوى، حيث توثّقت علاقات الدولتين العظميين في كل المجالات، وبالأخص خلال السنوات الأخيرة.
فالصين اتّبعت منذ ما بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، قبل ثلاثة عقود، وتوسّع هيمنة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين، استراتيجية متوازنة وحذرة، تستند بالدرجة الأولى إلى تأثير الاقتصاد والتجارة والعمليات الاستثمارية، وليس إلى القوّة أو القدرة العسكرية، من أجل تأمين مصالحها الكبرى والحيوية وحماية أمنها القومي، مقابل التوسع أو النفوذ الغربي العالمي؛ مع استمرارها ببناء قدراتها العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، وتعميق تحالفاتها الاستراتيجية أو المميّزة مع الاتحاد الروسي ودول عديدة في محيطها الحيوي وخارجه؛ ومنها الولايات المتحدة والكثير من الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية، على مختلف توجهاتها.
لماذا اتخذت الصين موقفاً حيادياً؟
من هنا يمكن فهم “حيادية وهدوء” الموقف الصيني الرسمي من العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ودعوات المسؤولين الصينيين المتكرّرة للتفاوض بين طرفي النزاع، مع ضرورة مراعاة الهواجس الروسية الأمنية المشروعة من رغبة النظام الأوكراني في الانضمام إلى حلف الناتو الأوروبي-الأميركي.
فقبل الحرب، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، إن التعاون الإستراتيجي الصيني – الروسي ليس له حدود نهائية، ولا مناطق محظورة.
وبالنظر للعلاقات الثنائية بين روسيا والصين، توقّع الكثير أن تدعم الأخيرة موسكو بشكلٍ لا لُبس فيه في حربها على أوكرانيا أكثر من مجرّد خطاب، خاصة من خلال مساعدة موسكو على تخفيف الضرر الناجم عن العقوبات الغربية.
لكن في الأشهر التالية، علمت روسيا أن الخطاب لا يتطابق مع الواقع. وفي حين أن موجة العقوبات العالمية على نظام بوتين قد عزّزت على ما يبدو العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين البلدين، فإن التأثير الإستراتيجي الحقيقي لروسيا كان زيادة الاعتماد على الصين.
وفي السياق رأى كُتّاب ومحلّلون عرب أن الصين تمثّل “شريان الحياة” لروسيا في الأزمة الحالية؛ ولذلك سعت واشنطن إلى إقناعها بالتخلّي عن موقفها الحيادي، لكن بكين ترى أن “إضعاف روسيا سيفقدها حليفاً قوياً”.
وأكد هؤلاء أن الصين “حليف استراتيجي” لروسيا لا يمكن أن تخسره. فيما رأى آخرون أن الصين قد تصبح “المنقِذ” للعالم لو أصرّت أمريكا وأوروبا على جرّ روسيا إلى “المهالك”.
وفي ظل العقوبات واسعة النطاق التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها ضد روسيا، تمثّل الصين حبل النجاة الرئيسي لموسكو، لامتصاص شدّة الصدمة التي ستخلقها العقوبات على اقتصادها، خاصة إذا طالت قطاع النفط والغاز؛ لكن هل تقف بكين إلى جانبها فعلاً في حربها ضد أوكرانيا؟
اختارت الصين رسمياً الحياد في الأزمة الروسية – الأوكرانية، وإن كانت من الناحية الاستراتيجية تقف في نفس الخندق مع موسكو في مواجهة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
فبكين لم تنضم إلى القائمة الطويلة من الدول التي أدانت الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، ناهيك عن فرض عقوبات على موسكو؛ بل ألقت اللوم على الولايات المتحدة في إثارة الأزمة وتصعيدها.
ففي اليوم الذي بدأ الهجوم العسكري الروسي، في 24 فبراير/ شباط الماضي، اتّهمت الخارجية الصينية واشنطن بأنها “أجّجت التوترات وأشعلت تهديدات الحرب في أوكرانيا”، ورفضت استخدام مصطلح “غزو” لتوصيف الحرب في أوكرانيا.
غير أن الموقف الصيني لم يذهب بعيداً في دعم روسيا، لأنه مكبّل بمبدأ “احترام أراضي الدول وسيادتها” بما فيها أوكرانيا، وهو ذات الموقف الذي تبنّته بكين عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
ناهيك أن الدعم الصيني لروسيا، من شأنه أن يورّط الصين في صراع أكبر مع الغرب، في قضية لا تعنيها بشكل مباشر.
فالوضع في الأزمة الروسية الأوكرانية متداخل بشكل عميق بالنسبة للصين، بين ما هو استراتيجي وما هو مبدئي، دون نسيان عامل ثالث متعلق بالمصالح الاقتصادية والتجارية المتشابكة مع هذا الطرف أو ذاك.
لذلك، فالحياد المحسوب خيارٌ تراهن عليه الصين. وتجلّى ذلك من خلال امتناعها عن التصويت حول إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، سواء في مجلس الأمن الدولي، أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فالصين تخشى أن تحوّل واشنطن الأزمة الروسية – الأوكرانية لفرصة تستهدفها رفقة موسكو بشكل متزامن، ما يسمح لها بإسقاط أكبر تهديدين لزعامتها على العالم بضربة واحدة.
مخاوف لدى الصين بشأن الحرب
أدّى تصاعد التوتّر بين روسيا والقوى الغربية بشأن الحرب في أوكرانيا، بعد مرور عدة أشهر على اندلاعها، إلى طرح العديد من التساؤلات بشأن الموقف الصيني، خاصة بعد إعلان موسكو التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط وتهديدها باللجوء إلى السلاح النووي.
وبدا أن الموقف الصيني تجاه روسيا قد تغيّر بعض الشيء، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن علانية على هامش قمّة سمرقند (في 15/9/2022)، عن وجود “أسئلة ومخاوف” لدى الصين بشأن حرب أوكرانيا، متعهدًا بتقديم شرح خلال الاجتماعات الثنائية.
وفي أعقاب ذلك، أبلغ وزير الخارجية الصيني وانغ يي نظيره الروسي سيرغي لافروف، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بكين تتمسك بموقف “موضوعي وعادل” للأزمة الراهنة.
ووفق شبكة “سي إن إن”، فإنه عندما التقى بوتين بالرئيس الصيني في أوزبكستان، كان المزاج مختلفًا بشكل ملحوظ عن اجتماعهما في بكين قبل أسابيع من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ لم يكن هناك المزيد من الترويج لصداقة “بلا حدود”، في إشارة دقيقة إلى حدود دعم الصين وعدم التناسق المتزايد في علاقتهما.
وفي الرؤية الصينية للاجتماع، لم يُشِر شي جين بينغ إلى “الشراكة الاستراتيجية” بين بكين وموسكو كالمعتاد.
لكن محلّلين يرون أن هذا التحوّل في اللهجة غير مفاجئ بالنظر إلى تصاعد التوتر على نحوٍ غير مسبوق بين أطراف الأزمة؛ لكنه من غير المرجّح أن يتخلّى الرئيس الصيني عن “صديقه القديم”، وستبقى الصين على موقفها الداعي إلى الحوار مع رفض الإدانة المباشرة للعملية الروسية.
وقال هنري وانج هوياو، مؤسّس (مركز الصين والعولمة)، ومقرّه بكين: “لا أتصوّر كيف يمكن أن يتغيّر الموقف… الصين لا تدعم الحرب، ولا تدعم الصراع؛ كان هذا واضحاً للغاية منذ البداية”..
ورغم أن الصين ربما كانت تأمل في حرب قصيرة، فإن تحرّكات بوتين في ميدان المعركة في أوكرانيا، والتي تهدف إلى احتواء الهزائم الأخيرة، من غير المرجّح أن تثير قلق بكين، أو أن تغيّر الطبيعة الراسخة لعلاقة البلدين، بحسب محلّلين. ويظلّ العامل المتحكم في مجريات الأمور هو الجغرافيا السياسية، بما في ذلك تنافس بكين مع واشنطن.
إذاً، يمكن الاستنتاج بأن موقف الدولة الصينية من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا هو موقف براغماتي وعقلاني، لأنه راعى المصالح الوطنية والقومية للصين أولاً، مع عدم الانجرار وراء حملات التحريض والتهديد الغربية لإبعاد الصين عن حليفها الاستراتيجي الأول بذريعة انتهاكه للقانون الدولي وسيادة دولة مستقلة، مع سعي الصين في الوقت عينه للمحافظة على أطر ومستويات علاقاتها الوثيقة الحالية مع الولايات المتحدة وأوروبا، في المجالات الاقتصادية والتجارية وغيرها، والتأكيد على سيادة الدولة الأوكرانية ووحدة أراضيها، والتي لم يعد من الممكن حمايتها من دون تفاوض مباشر مع “الجار الروسي” التاريخي ومراعاة هواجسه الحقيقية التي دفعته لشنّ الحرب.
الكاتب: حسن صعب